تكليف الملائكة..الحقيقة والمعنى

0 1442

ليس ثمة خلق أكثر عددا من الملائكة الذين اجتمعت حالهم على حالة واحدة من العبودية المطلقة، والاستسلام الكامل، والامتثال لأوامرالله، حتى خصهم الله تعالى بالذكر في كثير من آي القرآن لعموم فضلهم وشرفهم.

وحتى نفهم حقائق الأحوال الخاصة بالملائكة، ونسمي الأمور بأسمائها، يدور سؤال على ألسنة القارئين لهذه الحالة الفريدة من الطاعة والامتثال من هذا الخلق النوراني: هل يمكن القول بأن الملائكة مكلفون بالطاعة كما هو الحال عند البشر؟ ولمعرفة الإجابة على هذا السؤال علينا أن نتناول أسئلة أخرى هل التي ستقود للإجابة على السؤال السابق، والمختصة بمعرفة معنى التكليف بداية، وهل له علاقة بالعبودية، وإذا ثبت تكليف الملائكة كحقيقة شرعية، فهل تكليفهم هو كتكليف غيرهم من البشر، وما منشأ الخلاف في هذه المسألة؟

ما هو التكليف؟

التكليف في اللغة: طلب ما فيه كلفة، أو الإلزام بما فيه كلفة، وهي المشقة، ومثل هذا المعنى العام على جميع أنواع التكليف والإلزام.

وإذا كان التكليف بمعناه في الشرع، هو: إلزام المكلف بما يدل عليه خطاب الله جل جلاله، من الامتثال بالفعل، أو الترك، أو التخيير بين الفعل والترك، كان الملائكة بهذا الاعتبار مكلفون، لأن الله قد وجه إليهم الخطاب بفعل أمور محددة، وأسند إليهم مهام ووظائف معينة، وزودهم بالملكات والقدرات التي يتمكنوا بها من تنفيذ تلك المهام والقدرة عليها، فكانوا بذلك ملزمون بالامتثال لها.

التكليف فرع عن العبودية

إثبات التكليف للملائكة هو فرع عن بيان علاقتهم بمعاني العبودية، لأن العبودية في أصلها اللغوي: التذلل والخضوع، وقد جاء في مختار الصحاح: "وأصل العبودية: الخضوع والذل، والتعبيد التذليل، يقال: طريق معبد..والعبادة الطاعة"، وكل ما سوى الله سبحانه وتعالى فهو عبد لله، والملائكة من جملة ذلك، قال الله تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} (مريم: 93).

وإذا كان للعبودية معنى عام، وهو مطلق التذليل والتسخير، والذي تشترك فيه جميع المخلوقات، دخلت الملائكة في هذا المعنى؛ لأن الله قد سخرها لطاعته وعبادته، إلا أن هذا التسخير لا يعني أنه ليس لهم عقل ولا تمييز، وأنهم يعملون كالآلات الجامدة المسلوبة في إرادتها، وهذا في الحقيقة تصور غير صحيح أبدا، ونحن نرى أن القرآن قد امتدح حصافة جبريل ورجاحته، وذلك في قوله تعالى: {ذو مرة فاستوى} (النجم:6)، قال صاحب الصحاح: " والمرة: القوة وشدة العقل أيضا".

وفي معنى العبودية الخاص، نجد تعريفها، بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ويتضمن ذلك العبادات المعنوية كالخوف والمحبة ونحوهما، فنجد أن ذلك كله ينطبق على الملائكة، لأنها مأمورة بأفعال وأقوال يحبها الله تعالى، وهم ممتثلون لها، فكان الأمر بها تكليف متعلق بهم، ثم إن الملائكة تخاف ربها وخالقها، وفي نسبة الخوف لهم دليل على التكليف، وقد استدل السفاريني بهذه العبادة المعنوية على تكليفهم، مستشهدا بقوله سبحانه: {وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء: 28)، وقال: "وهذا كله تكليف وناشئ عن التكليف".

هل تكليف الملائكة كتكليف البشر؟

لا شك أن تكليف الملائكة مرتبط بطبيعتهم، وكذلك تكليف الجن والإنس مرتبط بطبيعتهم، فتكليف الملائكة لا ينفك عن مسألة عصمتهم فلا يعصون الله ما أمرهم، بخلاف الثقلين الذين جبلا على الضعف والجهل. كما عبر السيوطي عن هذه المفارقة بأن البشر: "..مكلفون مع استيلاء الموانع عنها عليهم، كالشهوة والحرص والغضب والهوى، ووسوسة الشيطان وضعف الأبدان إلى غير ذلك مما لا تحقق له في حق الملائكة".

وقد مايز الحافظ ابن حجر بين التكليفين بقوله: "طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب فكانت عبادتهم أشق وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة والاستنباط تارة فكانت أشق ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين وإلقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر".

منشأ الخلاف في مسألة تكليف الملائكة

بعض العلماء من المتقدمين - كأبي حامد الغزالي-  ومن المعاصرين كذلك يرون أن لازم التكليف عندهم: ثبوت الوعد والوعيد، أو الظن بأن ما كلف به الإنس والجن لازم لهم، والصحيح أن الملائكة والإنس والجن وإن اشتركوا في عموم التكليف، إلا أنه لا يعني ذلك الخلط بينهما وسحب الكلام المتعلق بأحد الفريقين على الآخر، فلكل تكليف طبيعته ومتعلقه، وتكليف الملائكة متصل بعصمتهم من الوقوع في المعاصي، بينما تكليف الثقلين مرتبط بطبيعتهم القابلة للمعصية، ثم إن المشقة الحاصلة في تكليف الملائكة أقل مما هي حاصلة للإنس والجن، لأن امتثال الأوامر في حقهم ليس فيه كلفة عليهم إذ ليس فيه ما يخالف طباعهم، ولهذا أثر في ترتب الوعد والعيد –بالجنة والنار- في شأن الجن والإنس دون الملائكة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة