- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
الهدية عامة أمر مستحب مندوب إليه، للوالدين والزوجة والأبناء والإخوان والأصحاب والجيران.. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وحث عليها، لما يترتب عليها من الحب والود والآثار والمعاني الاجتماعية الحسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) رواه مالك وصححه الألباني، وقال: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدى إلى ذراع أو كراع (ساق الغنم والبقر العاري من اللحم) لقبلت) رواه البخاري، قال الخطابي: "قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية، نوع من الكرم، وباب من حسن الخلق، يتألف به القلوب ... ووصف صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: بأنه يقبل الهدية".
ويخرج من هذا الاستحباب للهدية: الإهداء للموظفين والعاملين ومن في معناهم من القضاة والأمراء والولاة، وذلك سدا لذريعة الرشوة، فما أبعد ما بين الهدية المأمور بها المثاب عليها، والرشوة المحرمة المنهي عنها وإن سميت أو غلفت بغلاف الهدية. فعن أبى حميد الساعدى رضي الله عنه قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية, فلما جاء حاسبه, قال: هذا مالكم, وهذا هدية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟! ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله, فيأتي فيقول: هذا مالكم, وهذا هدية أهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة, فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء (صوت)، أو بقرة لها خوار, أو شاة تيعر (تصيح), ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت) رواه البخاري . وفي رواية مسلم قال عروة: (فقلت لأبي حميد الساعدي: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: من فيه إلى أذني).
قال ابن بطال: "وهذا الحديث يدل أن ما أهدى إلى العامل فى عمالته والأمير فى إمارته شكرا لمعروف صنعه أو تحببا إليه أنه فى ذلك كله كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه، لأنه بولايته عليهم نال ذلك، فإن استأثر به فهو سحت (حرام)".
وقال النووي: "وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدي إليه يوم القيامة كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة".
وقال الخطابي: "في هذا بيان أن هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة، وإنما يهدى إليه للمحاباة، وليخفف عن المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله". وقال الشوكاني: "والظاهر أن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة، لأن المهدي إذا لم يكن معتادا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض..".
وفي هذا الموقف النبوي مع ابن اللتبية رضي الله عنه فوائد كثيرة، منها:
ـ التنبيه والتأكيد على ضرورة التعفف عن استغلال النفوذ، وقد أكد وشدد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في مواقف وأحاديث كثيرة، فعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استعملناه علي عمل فرزقناه رزقا, فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال الصنعاني: "(من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا) على عمالته، (فما أخذه بعد ذلك فهو غلول) أخذ للشيء بغير حله فيكون حراما بل كبيرة، ففيه أن لا يحل للعامل إلا ما أعطاه من استعمله، فلا يأخذ شيئا مما قبضه غير ذلك، وأما الهدية من الذين يقبض منهم فقد علمت حرمتها من أحاديث وأنها من الغلول". وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هدايا العمال غلول) رواه أحمد وصححه الألباني.
ـ عدم التصريح باسم المخطيء على الملأ، والاكتفاء بالتعريض فيما يذم، وهذا هو هديه صلى الله عليه وسلم عامة، فقد كان يذكر الخطأ ويذمه، ولا يشهر بصاحب الخطأ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف: (فإني أستعمل الرجل منكم على العمل) ولم يذكر اسم ابن اللتبية على المنبر، فليست العبرة والفائدة في معرفة شخصية المخطيء، إنما بمعرفة الخطأ، والتنبه له والحذر من الوقوع فيه، فالتشهير بذوات المخطئين وأسمائهم لا يحقق المراد، ويوغر الصدور، والمقصود أن يعلم القاصي والداني عاقبة الرشوة، قال صاحب كتاب "منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه: "ولا يتعرض في وعظه لأحد معين، بل يتكلم خطابا عاما، لحصول الفائدة فيه لكل سامع، مع ما فيه من حصول المواراة والستر عن الفاعل وتأليف القلوب".
ـ وقال ابن حجر: "وفي الحديث ـ حديث أبى حميد الساعدى عن ابن اللتبية - من الفوائد أن الإمام يخطب في الأمور المهمة، واستعمال أما بعد في الخطبة كما تقدم في الجمعة، ومشروعية محاسبة المؤتمن ..، ومنع العمال من قبول الهدية .. وفيه: أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به، وفيه: جواز توبيخ المخطيء واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه، وفيه: استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع وأبلغ في طمأنينته". وقال المهلب: "حديث الباب (أي حديث ابن اللتيبة) أصل في محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحيح أمانته، وأن سبب محاسبته ما وجد معه من جنس مال الصدقة وادعى أنه أهدي إليه".
تمر السنون والأعوام، وتظل السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها نبراسا يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح، والأمن والأمان، للأفراد والمجتمعات، والمتأمل فيها يرى فقه النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النفوس، وحكمته في تربيتها، ورفقه في إصلاح أخطائها، وعلاج ما بها من خلل، ومن هذه الأحداث والمواقف: موقفه صلى الله عليه وسلم مع ابن اللتبية رضي الله عنه الذي استعمله على صدقات بني سليم ومحاسبته، ونصحه له وللأمة من بعده.