حتى الملائكة تسأل!

0 1071

ظل (جيفري لانج) مسيحيا بحكم النشأة حتى بلغ الثامنة عشرة حيث تحول إلى ملحد؛ لعدم قدرة عقله على استيعاب فكرة الألوهية المثلثة، وفي سن الثامنة والعشرين قرأ كتابا في تفسير القرآن، فوجد إجابات متماسكة ومنطقية دعته إلى إعلان إسلامه..
وهو بهذا يتفق مع ما يقوله (محمد أسد)؛ من أن فكرة التثليث والتجسد الإلهي لا تبعد الناس عن الكنيسة فحسب، بل عن الإيمان برمته.
عنوان الكتاب جاذب ومعبر وواقعي.. ففي "سورة البقرة" تجد الملائكة تسأل ربها عن الحكمة في خلق آدم..
وهذا إلهام للبشر أن يتأملوا ويتفكروا في حكمة خلقهم، وفي أنفسهم، وفي الكون من حولهم.
حين يكون السؤال معنى متحركا داخل الإنسان فهو لا يطرح للاستعراض أو التعجيز أو التعنت أو الترف الفكري أو المغالطة أو التكلف.. ولا يتقحم ما لا سبيل له إليه من الغيوب والمتشابهات..

حين يكون السؤال ضرورة معرفية وحقا إنسانيا بل وواجبا إيمانيا فلن يتوقف موسى عند شرط الخضر: {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} (70:الكهف)، على أنه وعده ابتداء بالكشف عما أشكل، ولكنه لم يصبر!
حين يكون السؤال استزادة من الفهم، وتوسيعا لدائرة الوعي؛ فهو منهج نبوي يسمع ولا يقمع، وقد سأل الصحابة رسول الله عن مسائل كثيرة وأجابهم عليها، ومنها ما جاء جوابه في القرآن: {يسألونك..}، وما أرشد الله نبيه إليه: {واسألهم عن القرية..} (163:الأعراف)، { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} (94:يونس).
توجيه مذهل في معالجة الشك بالسؤال.. والغالب أن المراد به أمته -عليه الصلاة والسلام-، وتقرير أن المعرفة الصادقة تؤخذ من أربابها من كانوا..
حين يكون السؤال كوة ينبثق منها النور؛ لأنه بحث في الممكن والمقدور، وليس في المتشابهات والغيبيات؛ التي لا سبيل للعقل إليها.. فهو يستدعي الجواب الحكيم المناسب، ولا يجعل العالم رهينة الجاهل، ويبقي الباب مفتوحا للمزيد من التحري والتدقيق والبحث، فختام الجواب: (والله أعلم)، وقد يكون الجواب كله: (لا أعلم.. لا أدري..).

من الخير أن تبقى بعض الأسئلة مفتوحة؛ لتنشيط حركة العقل، وترك فراغات معرفية تحفز على التزود: {وقل رب زدني علما} (114:طـه).
مشكلة العلم، ومشكلة الإيمان، ومشكلة الحياة هي: التقليد الأعمى، والتوقف عن النمو، والغرور بقليل المعرفة وظاهرها: { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا} (7:الروم).
ثم مسائل عويصة وشائكة من الغرور التسرع فيها بجواب يغلق الباب ويشل الفكر، أو الخروج منها بحالة من الانسلاخ ونبذ الإيمان.
أبق للمستقبل حقا.. وربما عثرت على الجواب، أو عدلت عن السؤال، أو نقلته إلى ميدان آخر..
أمر الله بالسؤال، وعده النبي شفاء للعي، وسماه الخليل بن أحمد مفتاحا لأقفال العلوم، وتواصى به العلماء حتى لحظ عبد الله بن المبارك طالبا لا يسأل فمازحه وقال:
إن تلبثت عن سؤالك (عبد الله)     ترجع غدا بخفي حنين!
أعنت الشيخ بالسؤال تجده ..       قلقا يتقيك بالراحتين!
وإذا لم تصح صياح الثكالى ..    رحت منه وأنت صفر اليدين

شيوخ كانوا يعلمون تلاميذهم كيف يلحون في السؤال، وليس التلقي والتلقين وهز الرؤوس و(السمسمة)!
ليس صحيحا أن الله أحرق أولئك الملائكة الذين سألوا..

السؤال جاء منسوبا لجميع الذين خوطبوا بالنبأ العظيم (خلافة آدم)، وسؤالهم كان قياسا على مشهد آثار استغرابهم من قبل، وعلى الأرض ذاتها، فهم لا يدركون نوازع البشر ودوافعهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، ولا يعرفون معنى شهوة المال والرياسة والتسلط والوصال الجسدي، وما جبل الله عليه من يخلقون من الأرض ويخلقون لها؛ لأنهم منغمرون في حالة التقديس والتسبيح والذكر: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} (20:الأنبياء).
وسؤالهم يفتح للإنسان ميدان البحث عن معناه، وسر كينونته، ومقصد وجوده.

لم يخلق آدم للتسبيح والتقديس المجرد كملك، خلق ليعمر ويبني ويكتشف ويبدع ويحاول، ويحقق ذاته عبر السعي المتواصل للخير والحق والحب والعمل والعطاء، وصلته بالله زاده ووقوده وعصمته من اليأس والضياع، ومن البغي والعدوان.
سؤال الملائكة يبدو اليوم، وعبر الأحقاب، مشيرا إلى الفساد العريض والتظالم وسفك الدم تحت ذرائع شتى؛ الذي حفل به تاريخ الحضارة!، فكيف بتاريخ التخلف والبدائية والجهل؟.

والجواب الإلهي داع للتأمل فيما هو أبعد، من المعاني الإيجابية، وقراءة الوجه الآخر في وجود الإنسان.. الوجه الذي ترجح مصلحته بيقين قاطع وإن كان ثم مفسدة.
{إني أعلم ما لا تعلمون} (30:البقرة)، فأنتم أعملتم القياس، وظننتم آدم في ميزان الأقوام المتخلفين المتوحشين ناقصي العقول، والله يعلم من فضله وذريته ومزيته وتكريمه ورحمته ما لا تعلمون.
إنه عبد موصول بالله؛ معرفة وحبا وخوفا ورجاء، وموصول بالأرض؛ إعمارا واكتشافا وإبداعا.. خلق ليضيف للأرض قيمة، وللشمس وللقمر وللنجوم وللسماوات، فوجوده فيها كشف إعجازها، وأظهر تسخيرها، وجلى مقاصدها وحكمها ومراميها، وفتق أسرارها.

عبر قرون متطاولة كان الأنبياء والأولياء والصديقون والشهداء، وكانت الصلوات والدعوات والخلوات والخشوع والدموع، وكان الابتلاء والصبر، والكرب والفرج، والضيق والأمل، والحزن والسرور، والمحاولة والخطأ والصواب، والذنب والمتاب، والوصل والصد والعتاب.. وكان وكان وكان!
عبر قرون متطاولة كان الكشف والتعلم، والمغامرة والإبداع، والنجاح والفشل، والمشكلة والحل، والبحث والتعثر، والوصول والخدمات، والتسهيل والتطور، والنظريات المعرفية..

لكل منا أن يقرأ في حراك البشر وجها جميلا طيبا.. بعدما غلبت لغة التشاؤم، والتشاتم، والمؤامرة، والصراع، والقطيعة.. حتى نسينا نحن المسلمين، أو كدنا، حكمة الباري في خلق الحياة والبشر برهم وفاجرهم ، خاطئهم ومصيبهم، مؤمنهم وكافرهم.

لكل منا أن يستشعر شيئا من أسرار خلقه تحت ظل هذا الجواب الرباني: {إني أعلم ما لا تعلمون}، بدل اليأس والقنوط، وطول المثول أمام مصاعب الحياة ومتاعبها، وإخفاقاتها وابتلاءاتها.. أو الرغبة في اختصار المسير، وانتظار المصير، واستعجال الرحيل.

لنؤمن بحكمة الحياة وجمالها؛ لأنها صادرة من الله الحكيم الجميل الطيب الصبور، وليكن هذ الإيمان دافعا للاستمتاع بها وتذوق جمالياتها، دافعا للإضافة الإبداعية علمية أو أدبية، ولو كانت يسيرة، فالجود من الموجود، وليكن فعلنا للخير، وإحساننا لشركائنا فيها، وصبرنا عليهم تأويلا حسنا للجواب الإلهي العظيم.
ولنردد مع الملائكة، فيما أعيانا فهمه وإدراكه، جواب العجز عن معرفة الأسماء: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} (32:البقرة).
ولنقتبس من آدم سر الإلهام والتفوق، والجرأة في عقله، والتواضع في خلقه وأصله، فلا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة