- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
بين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على أخيك المسلم في تفريج همه وكربه، والوقوف بجانبه ومساعدته، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا) رواه الطبراني وحسنه الألباني. قال ابن تيمية: "ومن أحب أن يلحق بدرجة الأبرار, ويتشبه بالأخيار: فلينو في كل يوم تطلع فيه الشمس نفع الخلق فيما يسر الله من مصالحهم على يديه".
وحياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة زاخرة بمواقفه مع الفقراء، التي علمنا من خلالها أن الرحمة الحقيقية بالفقراء والضعفاء وأصحاب الحاجات، لا تتمثل في مجرد تألم القلب لحالهم ـوإن كان ذلك محموداـ وإنما حقيقة الرحمة هي تلك التي تدفع صاحبها إلى خطوات فعالة على قدر استطاعته لمساعدتهم وتقديم سبل العون لهم.
من هذه المواقف ما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار (يلبسون كساء من صوف مخطط) أو العباء (جمع عباءة)، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر (تغير) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} (النساء:1)، والآية التي في الحشر: {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله} (الحشر:18)، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل (يستنير فرحا وسرورا) كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).
قال النووي: "قوله (حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة) فقوله: يتهلل، أي: يستنير فرحا وسرورا، وقوله: (مذهبة) ذكر القاضي وجهين في تفسيره، أحدهما: معناه فضة مذهبة، فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني: شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها مذاهب، وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود، وتجعل فيها خطوطا مذهبة، يرى بعضها إثر بعض، وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم ففرحا بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البر والتقوى، وينبغي للإنسان إذا رأى شيئا من هذا القبيل أن يفرح ويظهر سروره ويكون فرحه لما ذكرناه".
وقال ابن عثيمين: "والمراد بالسنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة) ابتدأ العمل بسنة، وليس من أحدث؛ لأن من أحدث في الإسلام ما ليس منه فهو رد، وليس بحسن، لكن المراد بمن سنها، أي: صار أول من عمل بها...فالحاصل أن من سن في الإسلام سنة حسنة ـولا سنة حسنة إلا ما جاء به الشرع ـ فله أجره وأجر من عمل بها من بعده. وقد أخذ هذا الحديث أولئك القوم الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه، فيبتدعون أذكارا، ويبتدعون صلوات ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يقولون: هذه سنة حسنة، نقول: لا، كل بدعة ضلالة وكلها سيئة، وليس في البدع من حسن، لكن المراد في الحديث من سابق إليها وأسرع، كما هو ظاهر السبب في الحديث، أو من أحياها بعد أن أميتت، فهذا له أجرها، وأجر من عمل بها. وفي هذا الحديث الترغيب في فعل السنن التي أميتت وتركت وهجرت، فإنه يكتب لمن أحياها أجرها، وأجر من عمل بها، وفيه التحذير من السنن السيئة، وأن من سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وقال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها) إلى آخره، فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: (فجاء رجل بصرة، كادت كفه تعجز عنها، فتتابع الناس)، وكان الفضل العظيم للبادئ بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان، وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة".
وفي هذا الموقف النبوي الكثير من الفوائد التي ينبغي الاستفادة منها في واقعنا أفرادا ومجتمعات، ومنها:
ـ المسلم يتألم لألم أخيه، ويفرح لفرحه، ويسر حين يرى حاجته قد انقضت، بل عليه أن يسعى في قضاء حاجة أخيه، وتفريج همه وكربه، ولذا يصف جرير بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى ما بهؤلاء المسلمين من الفقر الشديد: (فتمعر (تغير حزنا) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما رأى بهم من الفاقة)، ثم وصفه بعد أن سارع الصحابة لمساعدة إخوانهم: (حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل (يستنير فرحا وسرورا)، وهذا ما ينبغي على المسلمين تجاه إخوانهم الفقراء الضعفاء المكروبين في أي مكان، عليهم أن يتألموا لآلامهم، وأن يبادروا إلى إعانتهم، ويسارعوا إلى مساعدتهم قدر استطاعتهم، وقد عبر عن ذلك المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف وأحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم، وقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم، قال النووي: "هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه".
ـ وفي هذا الموقف ظهرت لنا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته وشفقته بالمؤمنين، إذ تغير وجهه حزنا على حال هؤلاء الفقراء من المسلمين، فمن سمات الكمال التي تحلى بها نبينا صلى الله عليه وسلم خلق الرحمة والرأفة بالغير، وصدق الله تعالى القائل: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}(التوبة:128)، قال السعدي في تفسيره: "أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم".
ـ من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أفزعه أو أحزنه أمر سارع إلى الصلاة، وذلك لما قاله جرير بن عبد الله رضي الله عنه وهو يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى شدة وحاجة هؤلاء الفقراء: (تمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى)، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر -اشتد عليه أمر أو أصابه هم أو غم- صلى) رواه أبو داود وصححه أحمد شاكر.
ـ استحباب جمع الناس للأمور المهمة، ووعظهم وحثهم على الخير وأعمال البر، وتذكيرهم بحق إخوانهم عليهم, وما يجب عليهم تجاههم من الإعانة والنصرة والدعاء؛ وذلك لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من قيامه بالخطابة في أصحابه، وحثهم على الصدقة على إخوانهم، وإن كانت الصدقة صغيرة قليلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ولو بشق تمرة)، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري.
ـ وفي هذا الموقف كذلك ظهر تفاعل الصحابة رضوان الله عليهم مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم وحثه لهم على الصدقة على إخوانهم الفقراء، حتى وصف جرير رضي الله عنه حالهم بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالصدقة: (قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة، كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس)، وفي ذلك دلالة واضحة على حرصهم ومسارعتهم لطاعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من أهم الصفات التي ميزت جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فقد فقهوا قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال:24)، وقوله سبحانه: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (الأحزاب:36).
من الكمال والجمال الخلقي الذي تحلى به نبينا صلى الله عليه وسلم خلق الرحمة والرأفة بالغير، فقد وهبه الله قلبا رحيما، يرق للضعيف والمظلوم، ويحن على الفقير والمسكين، ويعطف على الناس أجمعين، حتى صارت الرحمة له طبعا، فشملت الصغار والكبار، والخدم والعبيد، والفقراء والمساكين، وصدق الله تعالى القائل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء:107)، والقائل عن خلقه: {وإنك لعلى خلق عظيم} (لقلم:4).