- اسم الكاتب:د. محمد علي الصلابي
- التصنيف:تاريخ و حضارة
إن الله تعالى جعل بين الحاكم والمحكوم حقوقا وواجبات متبادلة، وبينت الشريعة الغراء هذه الحقوق المتبادلة؛ فمن أهم حقوق الرعية على الراعي:
أولا: العمل على الإبقاء على عقيدة الأمة صافية نقية:
وذلك عن طريق حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فهذا هو أهم الأمور التي تلزم ولاة الأمر تجاه الرعية، وأهم هذه الأصول: التمسك بالكتاب، والسنة، وإجماع القرون المفضلة الأولى.
وفي دراستي التاريخية لدولة المرابطين وجدت أن حكامها ساروا على هذا المنهج الذي رسمه شيوخهم الذين سبقوهم؛ ولذلك توحدت دولة المرابطين، وكان لذلك المسلك سبب في حماية الأمة من التفرق في الدين إلى دروب الأهواء والضلالات، وكان حماية ووقاية للحاكم والمحكوم في دولة المرابطين على السواء من الزيع عن السبيل، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103]؛ "أي: تمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم، في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله".
لقد كان يوسف بن تاشفين ومن سبقه من حكام دولة المرابطين على منهج الفرقة الناجية وسبيل أهل السنة والجماعة، لا سبل أهل الزيغ والتفريق التي نهى الله عنها في قوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} [آل عمران: 105، 106].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعني تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والزيغ".
لقد قام يوسف بن تاشفين بحماية أصول أهل السنة والجماعة بتشجيع العلماء والفقهاء وبنشرها وحمل الناس عليها، واستخدم في ذلك سلطانه وصلاحياته الشرعية.
ثانيا: توحيد المغرب تحت راية الخلافة الإسلامية:
قام يوسف بن تاشفين بتوحيد المغرب الأقصى تحت راية الخلافة الإسلامية، واستعمل من أجل هذا الهدف كافة الأسباب المشروعة، سواء بإصلاح ذات البين بين القبائل المتناحرة، أو باستعمال القوة مع من استعصى عن الإجابة، وكان يسعى سعيا حثيثا للقضاء على الشرور في بلاده، ويعمل على إغلاق أبوابها أولا بأول، وسبيله في ذلك "تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم".
ثالثا: العمل على حماية الأمة من المفسدين والمحاربين:
حيث استطاع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أن يؤمن السبل في بلاده، وأن يبسط الأمن، ويقمع الأخطار التي هددت دولته من المارقين، ونظم طرق الأسفار ومسارب التجارات.
وقد عد علماء الإسلام تأمين السبل والطرق حقا من حقوق الرعية التي سيسأل عنها كل راع، فذكروا أن الإمام يلزمه: "حماية بيضة الإسلام، والذب عن الحرم، ليتصرف الناس في معايشهم وينتشروا في أسفارهم آمنين على أنفسهم وأموالهم".
ولا شك أن تأمين السبل دليل بارز على انتصار الدين وتمكينه، فإنه صلى الله عليه وسلم لما دعا عدي بن حاتم إلى الإسلام، وعده -إن طالت به الحياة- أن يرى طرق المسلمين آمنة، وسبلهم محفوظة لما يئول إليه الأمر من قوة المسلمين بعد ضعفهم، فقد روى البخاري في صحيحه عن عدي بن حاتم قال: "بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله....
وفيه أن عديا -رضي الله عنه- قال بعدها: "فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله".
رابعا: العمل على حماية الأمة من أعداء الخارج:
قام الأمير يوسف بن تاشفين -رحمه الله- بأعمال عظيمة حماية لدولته وشعبه من كل عدو يحاول أن يعتدي، واتخذ كل الأسباب المتاحة من أجل تحقيق هذا العمل المنشود من تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا يظفر الأعداء بثغرة ينتهكون بها محرما، ويسفكون دما لمسلم أو معاهد.
وقضى على كل محاولات أعداء دولته من البرغواطيين والمغاورة والحماديين الذين حاولوا ضم أراض من دولته، وقضى على دويلات الكفر والإلحاد، وألزم الحماديين احترامه بالقوة.
خامسا: حفظ ما وضعت الشريعة لأجله:
فقام بإقامة الحدود، حتى تصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق العباد من أي إتلاف أو استهلاك، ونفذ في رعيته قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58].
سادسا: إعداد الأمة إعدادا جهاديا:
ومسيرة المرابطين منذ خروجهم من رباط عبد الله بن ياسين تدل على أنهم قوم مجاهدون، وقام قادتهم بجهاد الوثنيين، واستمر يوسف بن تاشفين في قتال أهل الردة، وغلاة المبتدعة، وتوحيد القبائل الخارجة عن نطاق الدولة، وقام بواجبه في جهاد الكفرة المعاندين للإسلام حتى أسلموا، أو أدخلوا في ذمة المسلمين قياما بحق الله تعالى في ظهور دينه على الدين كله.
سابعا: القيام على تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء:
حيث قام الأمير يوسف بالإشراف على جباية وصرف الزكاة في مصارفها الشرعية من غير حيف ولا عسف، فكانت من مصادر دولة المرابطين الزكاة والخراج والفيء وغيرها، فكان الأمير يوسف لا يأخذ الضرائب والمكوس، بل أسقطها، وإنما يأخذ المال من حله، ويضعه في حقه، ولا يمنعه من مستحقه.
ثامنا: تحري الأمانة في اختيار المناصب:
حرص الأمير يوسف على أن يختار الأمناء والأكفاء، وأسند إليهم الولايات وقيادات الجنود ومناصب القضاة، وحرص على أن يولي كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، واختار وانتخب أحسن وأنفع العناصر لدولته السنية؛ من أجل أن يقوم بواجبه نحو رعيته.
تاسعا: الإشراف المباشر على شئون الدولة:
اعتاد الأمير يوسف أن يشرف بنفسه على أمور رعيته، ويتابع ولاته، ويزورهم في مواطنهم، ويستمع للناس، وما كان يعتمد على التفويض وحده؛ خوفا من الله تعالى الذي قال في كتابه: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26].
وقد عد الإمام الماوردي هذا الأمر من حقوق الرعية على الوالي، وذكر أنه يلزمه: "أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة، أو عبادة؛ فقد يخون الأمين، ويغش الناصح...".
كان الأمير يوسف يراقب ولاته مراقبة شديدة، ولا يتردد في تبديلهم وعزلهم إذا أساءوا، وكان يضع مصلحة الرعية في المقام الأول عند تعيين الولاة، ويوصيهم بها خيرا، وقد جاء في كتابه إلى عبد الله بن فاطمة:
"فاتخذ الحق إيمانك، وارفع لدعوة المظلوم حجابك، ولا تسد في وجه المضطهد بابك، ووطن للرعية -أحاطها الله - أكنافك، وابذل لها إنصافك، والحرج من كل ما يحيف عليها ويؤذيها، ومن سدد عليها من عمالك زيادة، أو خرق في أمرها عادة، أو غير رسما، أو بدل حكما، أو أخذ لنفسه منها درهما ظلما فاعزله من عمله، وعاقبه في بدنه، وألزمه في رد ما أخذ متعديا إلى أهله، واجعله نكالا لغيره حتى لا يقدم منهم أحد على مثل فعله".
وكان الأمير يوسف يخطر أهل الولاية بتعيين الوالي الجديد؛ فكتب إلى أهل سبتة بشأن الأمير يحيى بن أبي بكر: "ونحن من وراء اختياره والفحص عن أخباره، فإذا وصل إليكم كتابنا؛ فالتزموا له السمع والطاعة، والنصح والمتابعة جهد الاستطاعة".
بالإضافة إلى ذلك، كان الأمير يوسف كثير الطواف في مملكته؛ للإشراف على تنفيذ أوامره وتعليماته من قبل الولاة، والاطلاع على أحوال الرعية والنظر في أمورها.