خروج النبي من المسجد مُسْرِعاً

0 1567

من هدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس مكانه بعد انتهائه من صلاته بعض الوقت، والصحابة رضوان الله عليهم حفظوا عنه أنه إذا انتهى من صلاته ظل في مكانه يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ففي "صحيح مسلم" عن ثوبان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام). لكن هذه السنة تغيرت يوما، إذ قام النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بعد سلامه وانتهائه من صلاة العصر مسرعا متجها إلى بيته، فما السبب الذي جعله يفعل ذلك؟!

يجيب عن هذا التساؤل عقبة بن الحارث رضي الله عنه فيقول: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعا، فتخطى رقاب الناس (مر بهم وهم جلوس) إلى بعض حجر (جمع حجرة) نسائه، ففزع الناس من سرعته! فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: ذكرت شيئا من تبر (ذهب أو فضة) عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته) رواه البخاري. وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (كنت خلفت (تركت خلفي) في البيت تبرا من الصدقة، فكرهت أن أبيته (أتركه حتى يدخل عليه الليل)، فقسمته). وقد ذكر البخاري هذا الموقف والحديث النبوي تحت باب: "من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم" عقب باب: "مكث الإمام في مصلاه بعد السلام".

قال ابن بطال: "فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود. زاد غيره: وهو أخلص للذمة، وأنفى للحاجة، وأبعد من المطل المذموم، وأرضى للرب، وأمحى للذنب".

وقال ابن عثيمين: "في هذا الحديث المبادرة إلى فعل الخير، وألا يتوانى الإنسان عن فعله، وذلك لأن الإنسان لا يدري متى يفاجئه الموت، فيفوته الخير، والإنسان ينبغي أن يكون كيسا، يعمل لما بعد الموت ولا يتهاون، وإذا كان الإنسان في أمور دنياه يكون مسرعا وينتهز الفرص، فإن الواجب عليه في أمور أخراه أن يكون كذلك بل أولى".

ومن فوائد هذا الموقف النبوي:

ـ ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، وحرصه على التقلل منها، وهذا الذهب الذي كان في بيته لم يكن يملكه، ولكنه كان من أموال الصدقة، فقد عاش نبينا صلى الله عليه وسلم زاهدا في الدنيا، وقد خيره ربه عز وجل بين أن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا، وذلك حين أرسل إليه ملكا فسأله: (يا محمد! أرسلني إليك ربك: أملكا أجعلك أم عبدا رسولا؟ قال له جبريل: تواضع لربك يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عبدا رسولا) رواه أحمد وصححه الألباني.
 
ـ مراعاة الإنسان مشاعر من حوله، وإخبارهم بما رأوه منه من أمر غريب عليهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى دهشة أصحابه واستغرابهم من فعله، بين لهم حكمة فعله، وسبب تصرفه الذي شاهدوه واستغربوه من خروجه مسرعا بعد انتهائه من الصلاة مباشرة، فقال: (ذكرت شيئا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته)، قال ابن رجب: "فيه دليل على أن الإسراع بالقيام عقب السلام من غير تمهل لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تعجبوا من سرعته في هذه المرة، وعلم منهم ذلك، فلذلك أعلمهم بعذره".

ـ جواز تخطي الرقاب في المسجد لعذر شرعي كالرعاف وحرقة البول، والغائط، أو تذكر أمر هام. قال ابن بطال مستخلصا من هذا الموقف النبوي ما فيه من أحكام: "مباح للإمام إذا سلم أن ينصرف إن شاء قبل انصراف الناس. وفيه: أن التخطى بما لا غنى بالإنسان عنه مباح فعله. وقال المهلب: التخطى لا يكون مكروها إلا فى موضع يشتغل الناس فيه عن الصلاة أو عن الخطبة، فحينئذ يكره التخطى من أجل شغل الناس بمن تخطاهم عما هم فيه من الذكر والاستماع، وقد تحضر الإنسان ضرورة حقن، أو ذكر حاجة يخشى فوتها، فيستجاز التخطى فى ذلك كالراعف والمحدث يخرج من بين الصفوف"، وقال العيني: "فيه: إباحة تخطي رقاب الناس من أجل الضرورة التي لا غنى للناس عنها، كرعاف وحرقة بول، أو غائط، وما أشبه ذلك".

ـ جواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ذكرت شيئا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته)، قال العيني: "وفيه: جواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة. وفيه: أن من حبس صدقة المسلمين من وصية أو زكاة أو شبههما يخاف عليه أن يحبس في القيامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فكرهت أن يحبسني)، يعني: في الآخرة، ومنه قال ابن بطال: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة". وقال ابن عثيمين: "وفي هذا الحديث أيضا دليل على جواز التوكيل في قسم ما يجب على الإنسان قسمته، ولهذا قال: (فأمرت بقسمته)".
 
ـ الاستعجال ليس مذموما دائما، بل منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، والاستعجال المحمود يكون في أمور الخير وأعمال الآخرة، قال الله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} (آل عمران:133)، ومن الاستعجال المحمود: الاستعجال في أداء الحقوق إلى أصحابها، ولذلك لما تذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من ذهب الصدقة عنده في بيته خرج بعد الصلاة مسرعا، وقام بتقسيمه وتوزيعه، وقال: (كنت خلفت (تركت خلفي) في البيت تبرا من الصدقة، فكرهت أن أبيته (أتركه حتى يدخل عليه الليل).

ما أحوجنا إلى دراسة السيرة النبوية، واستلهام الفوائد والدروس والعبر منها، فليست سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم مجرد أحداث ومواقف وقصص وقعت وانتهت، بل الأمر أكبر وأعظم من ذلك، إنها سيرة خير البشر، وأفضل الرسل، التي حفظها الله تعالى لنا لنستضيء بنورها، ونسير على طريقها، وقد أمرنا ربنا عز وجل أن نتأسى ونقتدي به صلى الله عليه وسلم فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب:21). 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة