ما أحوجنا لهذا الفن

0 602

لا يفسد الخلاف في الرأي للود قضية، ويا صاحبي هل لنا أن تتقارب قلوبنا وإن اختلفت آراؤنا؟

هاتان مقولتان جميلتان في أدب الاختلاف، وسعة الصدر للمخالف، ولا سيما إن كان الخلاف فيما يسوغ فيه الاجتهاد من متشابه الأمور، أو مسائل الخلاف التي قد تحتمل عدة أوجه.

يا لها من نصائح ثمينة نحفظها والكثير من نظائرها، ولكن شتان بين حفظ الكلام بمبانيه الظاهرة، ووعي معانيه وروحه ومقصده!

إن المتأمل في حال بعض الأوساط والمجتمعات - المنتسبة للإسلام - ليتألم لما يرى من كثرة الخلاف، والتفنن في تضخيمه، والاجتهاد في إذكاء ناره.

إن الألم يتعاظم، ويحز في النفس ما يؤول إليه الخلاف من قال وقيل، وباطل التأويل، وإحن الصدور، وكراهية وحقد، ومكر وكيد، وتحزب و فرقة، وضياع هيبة، وشماتة عدو مشترك، وتصيد كل فريق لمزالق الآخر وأخطائه، ويا ليت شعري من الذي ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط؟

فما أن يتحدث متحدث، أو يكتب مفكر، إلا ويبادر كثير من المتلقين - قبل التثبت وتمام الوعي - إلى تصنيف المتحدث أو الكاتب تصنيفا يشق عن القلوب؛ ليعلم كامن النيات وخبايا الصدور.

وسرعان ما يتبع عجلة هذا التصنيف غير المنصف، والمبني على السمع الانتقائي، والفهم المبتسر - جهد غير مبارك، فيلوي أعناق النصوص، ويتفنن في تخيل واصطياد الأخطاء الظنية ونشرها، والتشهير بقائلها، والتشنيع عليه في المجالس والمنتديات.

ويا للأسف، كم لهذا الفعل من ضحايا ورزايا!

كم من كاتب أو مفكر زل في أول أمره زلة صغيرة برأي شاذ، أو قياس فاسد، أو كبوة قلم، فتلقف زلته - بلا رحمة - متصيدو الزلات دون تثبت أو حسن ظن أو مراجعة، فصنفوا في عجالة فكره، ورسموا ظنا انتماءه، وشهروا به، وشنعوا تشنيعا، فما زادوه إلا عنادا وكبرا، وأعانوا الشيطان عليه، وقطعوا عليه حبل الرجعة؛ حتى استمرأ خلافه، وزاد فيه، واشتط وعاند.

إن العجيب في الأمر أن متصيد الزلة هو الملوم الأول في انتشارها وإشهارها واستفحالها، فقد كان يهدف - في أول أمره - إلى دحض الفكر المخالف وإضعافه في مهده، ولكنه بعجلته، وهجومه المبالغ فيه على المخالف، والتشهير به - نفر ولم يبشر، وبنى جبهة معارضة أعظم خلافا وأشد عنادا، وحال هذا كمن شردت عنه ناقته، فجرى خلفها يناديها ويداريها بلطف، فرآه نفر من الناس، وقرروا مساعدته، فجروا خلفها معه، واشتدت الجلبة، وعلا الصوت، فلم يزد عون الناس الناقة إلا خوفا وبعدا، وشرودا عن صاحبها.

إن استفحال هذا الداء في بعض الأوساط يدفع البعض إلى أن يظن خطأ أن الأصل في أمتنا الاختلاف، والبحث عما يفرق الكلمة، ويشتت الشمل، وأن فقه الاختلاف من الفنون التي ينبغي تعلمها وتعليمها، وهذا والله مخالف لهدي الوحي السماوي الذي يدعو جليا للجماعة، ونبذ الفرقة، ويحث على حسن الظن، والبعد عن الغيبة، ونبذ الهمز واللمز، ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين، والدفع بالتي هي أحسن، وينهى عن الاختلاف؛ لما يؤدي إليه من اختلاف القلوب، وذهاب الريح.

ألا ما أحوجنا إلى مراجعة النفس، وتصحيح الفكر، وتصفية المنهج تصفية تدعو دعوة ملحة وعاجلة كل المنصفين والعقلاء إلى نبذ فنون الاختلاف، التي لم نجن منها إلا الفرقة والكراهية، وتجنيد الأعداء، ومكابرة المخالفين.

ما أحوجنا إلى تعلم فن جديد هو فقه الائتلاف، والذي يمكننا من التعرف على نقاط التلاقي والاتفاق، والبناء عليها، ويعلمنا فن استمالة المخالف، واحتواء خلافه بدون التضحية بالثوابت، وما أجملها من استمالة حكيمة تحرك جوانب الخير في المخالفين، ونكسب بها أصدقاء وأحلافا، ونتلاقى معهم على أرضيات مشتركة، ونتفق معهم على خطط عمل متلاقية، تجعل مشروعها الأول والأهم هو تعلم وتعليم وإجادة فقه الائتلاف.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة