معايير تحديد أولويات المواجهة

0 784

هناك فريق من الناس يشنع كثيرا على دعاة أهل السنة بالقول بأنهم لا يرتبون الانحرافات بشكل صحيح، فتراهم يردون على من يخالفهم في بعض الملفات الشرعية، ويدعون العلمانيين الأقحاح، أو يقولون أحيانا: سلم منكم اليهود والنصارى، ولم يسلم منكم مفكرون لا زال يشملهم الإسلام؟. أو يقولون أحيانا: أهل السنة يحتاجون إلى الوعي بأي الحروب أولى بالمواجهة. أو يقولون في أحيان أخرى: هرم الانحرافات يقف بالمقلوب في الوعي السني!

وقد لاحظت أن أغلب من يردد هذه الحجج هم التيارات المنتسبة للاستنارة الإسلامية، والإصلاح السياسي، ويرددها –أيضا- تيار جديد بدأ يظهر على الساحة الآن وهو تيار (الوطنية الإسلامية)، وهو تيار يعلن –بمناسبة وبلا مناسبة- ولاءه السياسي الكامل والمطلق، ويتعامل مع المخالفين على أساس أنهم “شركاء في الوطن”، ويؤسس شرعية مطالباته وقائمة أجندته الفكرية على أساس “ثوابت الوطن”، ويتحاشى بطريقة فوبية غريبة أية لغة يفهم منها البناء على أسس “عقائدية”.

على أية حال.. لسنا معنيين كثيرا بمن يردد هذه الحجج، ولكن يعنينا هاهنا أن نحلل مدى شرعية هذه الحجج؟ وهل تتفق مع المنهج الدعوي عند أهل السنة، أم هي بدعة وإحداث في دين الله؟.

حين نعيد تأمل هذه اللافتات التي يرفعونها حول “أولويات بيان الانحرافات والرد على المخالفين” نلاحظ أنها تنطوي على “معيار” ضمني، هذا المعيار هو بكل وضوح أن أولوية الرد على المخالف تتحدد على أساس “حجم الانحراف”: فالملحد أولى بالرد من العلماني، والعلماني أولى بالرد من المخالف المنهجي لأهل السنة، والمخالف المنهجي لأهل السنة أولى بالرد على الخطأ الفقهي الجزئي، وهكذا. ولذلك إذا رأوا عالما أو داعية يرد على “مخالف منهجي” لأهل السنة، قالوا له: سلم منك الملاحدة والعلمانيون وجئت ترد على من يشاركك أكثر الأصول والهموم؟!

معيار غير صحيح:
هذا الموقف منعكس عن مقياس يجعل الأولوية مرتبطة بمراتب الانحراف ذاته. فما مدى صحة هذا الموقف؟.
الحقيقة أنه وبأدنى تأمل في طريقة السلف الصالح وأئمة الهدى فإن الباحث يعرف أن هذا معيار باطل مخالف للمنهج الدعوي عند أهل السنة، ومن تأمل ردود أهل السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار من بعدهم فإنه سيلاحظ أن هناك معيارا مختلفا كليا. فالمعيار عند أهل السنة لا يربط أولويات المواجهة بـ (حجم الانحراف)، وإنما يربط أولويات المواجهة بـ(حجم الحاجة إلى البيان).

تأمل معي بعض هذه النماذج:
في الصحيحين أن عبد الله بن عمرو قال رجعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فأخذ رسول الله ينادي بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار.
لو طبقنا معيار الطوائف الفكرية بأن البيان والرد يكون على (حجم الانحراف) لقلنا: لماذا يهتم النبي وينادي بأعلى صوته بقضية جزئية لا تتعدى أن بعض الناس بسبب السرعة نسوا جزءا يسيرا من أقدامهم لم يمسه الماء؟! هل يسوغ أن نقول: الأمم من حول النبي فيهم اليهود والنصارى وعبدة النار والمشركون، والداخل الإسلامي يعاني من الفقر، ومع ذلك يعتني النبي بقضية جزئية تتصل بأحد جزئيات الطهارة؟.

هذه التساؤلات لا يستطيع أن ينفك عنها العقل الذي تشبع بالمعيار الفكري بأن الرد والبيان يكون على حجم الانحراف، أما العقل الرصين الذي تشبع بالمعيار الشرعي بأن الرد والبيان يكون بحسب الحاجة إلى البيان فإنه يفهم هذا الفعل النبوي فهما صحيحا.

وهذا المثال طبقه على سائر مواقف النبي – صلى الله عليه وسلم - التي غضب فيها وأظهر فيها اهتماما واضحا في مسائل جزئية فقهية يحتمل الخلاف فيها، وقارنها بحال المجتمع النبوي الذي يحيط به أصناف الكفار، وفي داخله أعتى المنافقين، ويعج بالفقراء والمعوزين، ومع ذلك كله يهتم النبي بجزئيات المسائل ويرد على أناس من الداخل الإسلامي ذاته.

وإذا شاء القارئ الفاضل المزيد من هذه النماذج فيمكنه مراجعة باب لذيذ إلى الغاية عقده عبقري السنة الإمام البخاري في صحيحه باسم (باب الغضب في الموعظة والتعليم)، وهو موجود في الصحيح في (كتاب العلم)؛ فقد ساق فيه شواهد نبوية على اهتمام النبي وغضبه في مسائل جزئية.

 وعلى أية حال فكتاب العلم في صحيح البخاري إذا تأمله طالب العلم وجد أنه يحسم كثيرا من مسائل النزاع في المنهج الدعوي لأهل السنة.
خذ مثالا آخر، حين مات النبي – صلى الله عليه وسلم - كان جيش أسامة لغزو الروم قد عقدت رايته، وفي الداخل الإسلامي ظهرت طائفة تنكر وجوب دفع الزكاة لأحد بعد رسول الله، فجهز أبوبكر الجيوش لقتالهم، برغم أنهم يعلنون أنهم مسلمون ويقولون “لا إله إلا الله”، لكن لديهم تأويل لآيات الزكاة بأن المخاطب والمختص بأخذها هو النبي لا غيره، فكانوا يقولون: كيف يحق لأبي بكر أن ينزل نفسه منزلة النبي في هذه الفريضة؟!
وقد شرح الإمام ابن تيمية تأويلهم فقال: (وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا: إن الله قال لنبيه: {خذ من أموالهم صدقة} وهذا خطاب لنبيه فقط، فليس علينا أن ندفعها لغيره، فلم يكونوا يدفعونها لأبي بكر ولا يخرجونها له)[الفتاوى: 28/542].
فهؤلاء منتسبون للإسلام، ومتأولون لا في أصل الزكاة، بل في حق أبي بكر باستلامها، حتى أن بعض كبار الصحابة أشكلت عليه المسألة بادئ الأمر كما قال عمر: (كيف تقاتلهم وهم يقولون لا إله إلا الله؟)، ومع ذلك فقد جرد أبو بكر سيفه وجهز الصحابة لقتالهم، بكل ما يتضمنه القتال من سفك الدماء وغنيمة الأموال. فلم يقل أبو بكر: جيش أسامة على تخوم البلقاء يقاوم الروم النصارى، ونحن نقاتل متأولين في مسألة فيها احتمال! بل علم بفقهه الدقيق أن مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة في تحريف الإسلام من الداخل في مثل هذا الظرف لا تقل عن أهمية مواجهة النصارى.

فلو طبقنا المعيار الفكري بأن (المواجهة على قدر الانحراف) لقلنا أخطأ أبو بكر، لأن مواجهة نصارى الروم وهم كفار أصليون محاربون أولى من مواجهة متأولين في الداخل المسلم يقولون: لا إله إلا الله، فضلا عن مقاتلتهم!
لكن لو طبقنا المعيار الشرعي بأن (المواجهة على قدر الحاجة إلى البيان) لاستوعبنا حنكة أبي بكر ودقة فقهه وعمق علمه بدين الله، ولذلك تكلم علماء الإسلام كثيرا عن البركات التي حصلت بعزمة أبي بكر على قتال المتأولين في الزكاة.

ويمكن أن نشاهد هذا المعيار السني في تطبيقات الصحابة بشكل عام، كمثل تشديد ابن مسعود على المتأولين في الذكر الجماعي، وتشديد ابن عمر على المتأولين في كون المعاصي مقدرة (وهم الذين سموا القدرية لاحقا) برغم أنهم لم ينكروا أصل القدر، بل تأولوا بعض معناه فقط، وبرغم أنهم ينتسبون للعلوم الشرعية، كما يصفهم الراوي في صحيح مسلم حين جاء يسأل ابن عمر (فقلت أبا عبد الرحمن: إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم – وذكر من شأنهم – وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف)، ومع ذلك كله قال فيهم ابن عمر مقالته الشديدة المعروفة.

فهل يصح القول: كيف يشدد الصحابة على هذه الاجتهادات في التأويل ويدعون الملاحدة واليهود والنصارى والمجوس والولاة الظلمة والمظالم المالية؟!
بحسب معيار الطوائف الفكرية المعاصرة، نعم، فإن معيارهم سيقودهم إلى التورط بإدانة الصحابة ذاتهم، لكن بحسب المنهج الدعوي عند أهل السنة فهذه المواقف الصحابية معدودة في مناقبهم ومن شواهد عمق فقههم وعلمهم.

والأئمة الأربعة أيضا:
وهكذا –أيضا- انظر في أقوال الأئمة الأربعة في بدعة تأويل الصفات الإلهية، وكيف كانت مواقفهم الشديدة التي وصلت للحكم بكفر المعين أو لعن المعين على أمثال الجهم بن صفوان وعمرو بن عبيد وحفص الفرد ونحوهم (وأقوال السلف في هذا الباب مجموعة في العلو للذهبي واجتماع الجيوش الاسلامية لابن القيم). فهل يمكن أن نقول للأئمة الأربعة –أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد- أنتم تصرفون جزءا من وقتكم في التشديد البليغ على من يتأول بعض نصوص الصفات وهي مسائل تحتملها لغة العرب، وتتركون الملاحدة واليهود والنصارى والفساد السياسي في عصوركم؟!

هذه الطوائف الفكرية تنتج معايير ولا تراعي أن معاييرها تقودها إلى إدانة السلف ذاتهم! وهم يتفاوتون في الموقف من ذلك، فبعضهم يطرد قاعدته وأصله ولا يبالي إن كانت قاعدته تقتضي انتقاص السلف واستجهالهم واستبلاههم، وبعضهم فيه بقية دين فيتحاشى أن يطبق قاعدته على عمل السلف، ويفضل أن يعيش بهذا التناقض على أن يواجه لوازم قاعدته.

ظاهرة الإباحية الفقهية:
ومن تطبيقات هذه الإشكالية: ظاهرة “الإباحية الفقهية” المعاصرة، وهي أن بعض أصحاب تدجين الخطاب الدعوي المتصدرين في الفضائيات اليوم صاروا يسلكون منهج “تتبع رخص العلماء وزلاتهم والفتيا بها” بشكل واضح، بل وباندفاع في هذا المجال وتصفيق إعلامي ملفت، وصار عند هؤلاء “لجان علمية” وظيفتها البحث في كل مسألة عن من أباحها من أهل العلم للفتيا بموجب ذلك، لجان يسمونها علمية كل وظيفتها “البحث عن مبيح”!، وتتاح لهم برامج أوقات الذروة؛ ليحقنوا المسلمين المستهدفين بزلات العلماء، كان الله في عوننا نحن المشاهدين المساكين، فبدلا من أن نجد علما يحي قلوبنا، صرنا نجد شبهات تربت على أهوائنا لنستكين على وضعنا، شخصيات تصدرت للناس بدلا من أن تكون وظيفتها إحياء الإيمان في النفوس، صارت وظيفتها توهين التدين في نفوس الناس، وتوفير مبررات الفتور التعبدي والبرود الدعوي.

المهم.. أنه إذا قام أحد علماء ودعاة أهل السنة ببيان الانحراف في عين فتوى بذاتها، أو تجاه مسلك هذا الرجل بعمومه، قاموا عليه وأخذوا يتساءلون باستغراب: تترك العلمانيين وتأتي لهذا المنتسب للدعوة؟! هذا خلاف فروعي لا يستدعي منك أن تكتب في بيانه؟! تترك المخالف في الأصول ترد على المخالف في الفروع؟! ونحو هذه العبارات.

وإجابة على هذه الدعوى يقول ابو العباس ابن تيمية رحمه الله مبينا أن الحاجة للبيان في مثل هذه المسائل قد تفوق الحاجة للبيان في بعض مسائل العقيدة الظاهرة لكل أحد، كما يقول رحمه الله: (فإن فتوى من مفت في الحلال والحرام، برأي يخالف السنة أضر عليهم من أهل الأهواء، وقد ذكر هذا المعنى الإمام أحمد وغيره، فإن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت، وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة، بخلاف الفتيا فإن أدلتها من السنة قد لا يعرفها إلا الأفراد، ولا يميز ضعيفها في الغالب إلا الخاصة، وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير)[الكبرى: 6/144].

 بالله عليك تأمل في عمق هذا الفقه، حيث جعل الرد على بعض الفتاوى الفروعية التي شذت عن طريق أهل العلم، قد تكون أولى بالبيان من بعض البدع الكبرى، لأن الأولى خفية والثانية ظاهرة، فجعل المعيار ـ رحمه الله ـ ليس حجم الانحراف، بل مدى حاجة الناس للبيان.

وثمة مقولتان للعلامة المتفنن بكر أبوزيد كلما قرأتهما رقصت جوانحي طربا لهما، وما رأيت كلام هذه الطوائف الفكرية في هذا الباب إلا تذكرت عبارته يرحمه الله، وهاتان العبارتان كلاهما مذكورتان في كتابه “الردود”، فأما العبارة الأولى فهي قوله رحمه الله وغفر له: (إذا رأيت من رد على مخالف في شذوذ فقهي، أو قول بدعي، فاشكر له دفاعه بقدر ‏ما وسعك، ولا تخذله بتلك المقولة المهينة “لماذا لا يرد على العلمانيين”)[الردود، بكر أبوزيد:49].
وأما العبارة الثانية فهي قوله رحمه الله: (فقل لي بربك: إذا أظهر المبطلون أهواءهم، والمرصدون في الأمة: واحد يخذل، وواحد ساكت، فمتى يتبين الحق؟) [الردود، بكر أبوزيد:17].

وعلى أية حال .. أولئك الذين يلومون علماء ودعاة أهل السنة على مقاومتهم للانحرافات المنهجية – حتى المنتسبة منها للفكر الإسلامي- بحجة أن مقاومة اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين أولى، إنما يتمسكون بحجة مؤداها الإزراء بجهود النبي وأصحابه وأئمة الهدى من بعدهم في العناية بسائر تشريعات الإسلام كليها وجزئيها، وأن جهود البيان والرد عندهم ليست مرتبطة بحجم الانحراف، بل مرتبطة بمدى حاجة الناس للبيان.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة