- اسم الكاتب:إبراهيم التركاوي
- التصنيف:خواطـر دعوية
في ظل الحضارة المادية الجارفة، التي طبعت العالم بطبعها، وصبغت الناس - إلا من رحم الله - بصبغتها، وأصبح الإنسان فيها أسير مصلحته وأنانيته، وسجين جشعه وطمعه، يأكل كالنار - الأخضر واليابس، ولا يلوي على شيء، شعاره: أنا ومن بعدي الطوفان!
وقد شبه الإمام "محمد الغزالي" - رحمه الله - هذه الحضارة المادية بـ"أبي الهول" التمثال القابع عند الأهرام في مصر، له وجه إنسان وجسم حيوان! كذلك هذه الحضارة لها عقل إنسان وغرائز حيوان!
ومع تقديري لتشبيه إمامنا "الغزالي" لهذه الحضارة بأن لها غرائز حيوان، بيد أنها تعدت غرائز الحيوان، فالحيوان قد يعرف الشبع، أما هذه الحضارة المادية المتوحشة البشعة، لا تعرف الشبع، فقد اتسعت معدتها علي حساب ضميرها وعقلها، وإحساسها بإنسانيتها، وبشريتها!
هذه الحضارة صنعت طغمة مادية فاسدة استأثرت بخيرات العالم، لا يتعدى هدفها بطونها، وفروجها، ومتعتها، ولا هم لها إلا أن تبقي مهيمنة ولو فني غيرها!
والقرآن الكريم، يصور لنا مدي وحشية الإنسان وهمجيته، عندما يتردي في أسفل سافلين، ويصبح أسير هواه وأنانيته.. {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}[البقرة:204-206].
هكذا، الإنسان إذا استأثرت به أنانيته، وجاءته الفرصة وتمكن، سعي في الأرض؛ ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، وغلب مصلحته علي مصلحة أمته، ولا يبالي أن يضحي بمن في الأرض إن استطاع في سبيل إشباع نزواته ومآربه.
ولا مخرج للإنسان من هذه الصورة الوحشية البشعة، إلا إذا هاجر من " الأنا " إلي روح الجماعة، وغلب مصلحة أمته علي مصلحته الذاتية، وما عاش لنفسه، وعاش لأمته، وبذل في سبيل رفعتها كل ما يملك!
ولذا، انتقل القرآن من هذه الصورة المظلمة المتوحشة السابقة إلي تلك الصورة المضيئة المشرقة، التي ضحت بكل شيء، وهاجرت، تاركة وراءها الأهل والمال والوطن، في سبيل أن يسلم لها دينها وتسلم لها قيمها.. {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد}[البقرة:207].
إن الامم لا تنهض، ولا تعز، إلا بإنسان رسالي، انتصر على نفسه، واستعلى على أنانيته، يأبى الظلم والضيم، يحيا لمبدئه، ويجاهد من أجل فكرته، ويعمل لصالح أمته، ويسهر على راحتها، يضيء لها الطريق، لتسعد، ويسعد غيرها.
ولا غرو، أن كانت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام، من دار أرباب الظلم والأثرة والأنانية، إلى دار أنصار الحب والإيثار والتضحية.. !
ولقد صور القرآن أنصار الحب والإيثار بصورة، لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل ومن بعد إلى اليوم! {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]
تلكم صورة للمجتمع المثالي الذي أقامه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الإخاء الكامل، كما عبر بذلك الإمام الغزالي - رحمه الله - الإخاء الذي تمحي فيه كلمة " أنا" ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كيانا دونها، ولا امتدادا إلا فيها.
حقا، ما أحوج الأمة والعالم أجمع إلى " الهجرة " من الصورة المادية الوحشية الطاغية، التي أتت على كل شيء في سبيل "الأنا "، إلى تلك الصورة المثالية المضيئة المشرقة التي هاجرت كل شيء، في سبيل تحرير الإنسان، وإعلاء قيمته، ونصرة الأخلاق والمبادئ والقيم، لتسعد الأمة والبشرية جميعا.