- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من المولد إلى البعثة
اقتضت حكمة الله سبحانه أن يجعل أنبياءه ورسله بشرا كغيرهم، لكن الله اختصهم وميزهم بأمور وصفات تتطلبها الرسالة وتقتضيها النبوة، ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوة وبعدها، أما قبل النبوة فليتأهلوا للأمر العظيم الذي سيوحى به إليهم، وأما بعدها فليكونوا قدوة لأممهم. ونبينا صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء، كان متمتعا بخصائص البشرية كلها التي فطر الله الناس عليها، وقد حفظه الله تعالى منذ صغره عن كل ما لا يتفق مع مقتضيات الرسالة والدعوة، والمنزلة التي هيأه الله لها، وقد عرف في قومه بأنه أحسنهم خلقا، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، فسموه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة الحميدة والفعال السديدة.
ومن المعلوم أن المجتمع والبيئة التي نشأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم ـ مع ما فيها من شرك ووثنية وأخلاق جاهلية ـ وجد فيها قليل من الحنفاء الذين وحدوا الله تعالى، وعاش فيها أناس كرماء وأوفياء، عرفوا بالعفة والتنزه عن الفواحش، ولكن لم يوجد فى هذه البيئة أو غيرها إنسان جمع الله تعالى فيه كل هذه الصفات الحسنة وغيرها مثل ما جمع ذلك فى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فلا يملك من تدبر وقرأ ـ بإنصاف وتجرد ـ سيرته صلى الله عليه وسلم إلا أن يدرك أن الحفظ الرباني والإعداد الإلهي هو الذي كان وراء كمال عقله وأخلاقه، وبراءته من كل نقائص ومثالب بيئته التى نشأ فيها، قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}(الأنعام:124)، وقال: {والله يعصمك من الناس}(المائدة:67).. قال القاضى عياض: "واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى - كالجنون والإغماء -، ولا على خاطره بالوساوس". وقال ابن هشام في السيرة النبوية: "فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى سمي في قومه الأمين ، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة".
وصور ومظاهر حفظ الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره وشبابه وقبل بعثته كثيرة، منها:
حفظه من كشف العورة:
للنبي صلى الله عليه وسلم طفولة كان يلعب فيها مع الغلمان، ويعجبه ما يعجبهم، إلا أن الله عز وجل عصمه منذ طفولته مما يخدش الحياء، أو يطعن في المروءة، حتى من الأشياء التي يتساهل فيها الغلمان، مثل التعرى، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقك من الحجارة، فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إزاري إزاري، فشد عليه إزاره) رواه البخاري، وفي رواية لمسلم: (فحله فجعله على منكبه، فسقط مغشيا عليه, قال: فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانا).
ومظهر عناية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة أنه أغشي عليه بمجرد أن تعرى، والإغشاء من الله تبارك وتعالى، لأن الحديث لم يبين بأي سبب كان الإغشاء إلا التعري، فعلمنا أن الإغشاء كان منة من الله الحافظ له، ووجه المنة أن الإغشاء كان للستر، وقد حدث بعد أن حل إزاره مباشرة، قال النووي: "وفي هذا الحديث بيان بعض ما كرم الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم كان مصونا محميا في صغره".
عصمته من لهو الشباب وفعل الجاهلية:
حفظ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في صغره وشبابه من كل أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بضدها، وعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا، تتدخل العناية الربانية والحفظ الإلهي للحيلولة بينه وبينها، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام أهله يرعاها: أبصر إلي غنمي حتى أسمر (السمر هو الحديث ليلا)هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء وضرب دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟! فقالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت، فقال: ما فعلت؟، فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت ؟!، قلت: ما فعلت شيئا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته) رواه ابن حبان، والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل، وحسنه ابن حجر، وضعفه الألباني.
النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا بخصائص البشرية كلها، وكان يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميول الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها، لكن الله عز وجل مع ذلك قد حفظه وعصمه منذ صغره عن جميع مظاهر الانحراف، وعن كل ما لا يتفق مع مقتضيات النبوة والرسالة التي هيأه الله تعالى لها.
عدم أكله مما ذبح للأصنام:
كان صلى الله عليه وسلم منذ صغره وقبل نبوته وبعثته لا يأكل ما ذبح على النصب، ووافقه في ذلك زيد بن عمرو بن نفيل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه و سلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح (واد في طريق التنعيم إلى مكة) قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه و سلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه و سلم سفرة (طعام) فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه) رواه البخاري. قال الكرماني في شرح صحيح البخاري: "(الأنصاب) جمع النصب وهو ما نصب فعبد من دون الله تعالى، فإن قلت: هل أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها؟ قلت: جعله في سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدل على أنه كان يأكله، وكم من شيء يوضع في سفرة المسافر مما لا يأكله هو بل يأكله من معه، وإنما لم ينه الرسول صلى الله عليه وسلم من معه من أكله لأنه لم يوح إليه بعد، ولم يؤمر بتبليغ شيء تحليلا وتحريما حينئذ، قال الخطابي: امتناع زيد من أكل ما في السفرة إنما هو من أجل خوفه أن يكون اللحم الذي فيها مما ذبح على الأنصاب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل من ذبائحهم التي كانوا يذبحونها لأصنامهم".
عدم قسمه بغير الله:
بغضت للنبي صلى الله عليه وسلم الأوثان بغضا شديدا حتى ما كان يحضر لها احتفالا أو عيدا، وما كان يقسم بها أبدا كما كان يفعل قومه وأهل بيئته التي نشأ فيها، فقد ذكر أبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة، وابن هشام في السيرة النبوية، وابن سعد في الطبقات: "جاء في قصة بحيرا الراهب أنه استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات والعزى حينما لقيه بالشام في سفره مع عمه أبى طالب وهو صبى، لما رأى فيه علامات النبوة، فقال بحيرا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى شيئا ، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط". وعن عروة بن الزبير رضى الله عنه قال: حدثنى جار لخديجة بنت خويلد رضى الله عنها قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول لخديجة: (أى خديجة، والله لا أعبد اللات أبدا، والله لا أعبد العزى أبدا) رواه أحمد وصححه الشيخ محمد شاكر.
الكمال البشري صفة أساسية فى أنبياء ورسل الله عز وجل، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأكملهم، قال القاضي عياض: "وأما وفور عقله صلى الله عليه وسلم، وذكاء لبه، وقوة حواسه، وفصاحه لسانه، واعتدال حركته، وحسن شمائله، فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم"، وذلك لأن الله تعالى قد تولاه فأدبه وأحسن تأديبه، ورباه فكمله، وحفظه مما كان يشين حياة قومه من وثنية مستقبحة، وعادات مسترذلة، حتى أصبح ـ بحفظ الله له ـ أكمل إنسان فى بشريته، لم يستطع أحد أن يريبه فى حياته، أو يلمز فترة شبابه بلمزة أو ريبة على كثرة خصومه وأعدائه المتربصين به.. والسيرة النبوية زاخرة بصور ومظاهر حفظ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم منذ صغره وشبابه وقبل بعثته وبعدها حتى لحق بالرفيق الأعلى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.