- اسم الكاتب:د. راغب السرجاني
- التصنيف:تاريخ و حضارة
نكبة بلنسية على يد الكمبيادور:
لكن بلنسية ما زالت مقبلة على أيام أخرى شديدة، يرتبط هذا بتاريخ فارس قشتالي مغامر يبحث عن طالعه، ويسعى لمغنمه. تشير إليه مصادرنا التاريخية باسم (الكمبيادور أو القنبيطور أو الكنبيطور أو الكبيطور El Cid Campiador)، واسمه رودريجو (رذريق) دياث دي فيفار (Rodrigo Diaz de Vivar)، من مواليد قرية فيفار، قرب مدينة برغش (Burgos) عاصمة قشتالة، وكان من جنود شانجه، أخي الفنش (ألفونسو السادس) ملك قشتالة وليون.
فعندما وصلت أنباء مقتل القادر إلى الكمبيادور سار في الحال في قواته صوب بلنسية، (485هـ / أواخر سنة 1092 م). وفي الحال ضرب الحصار حول المدينة، بعد أن أحرق ما حولها من الضياع والمروج، إلى أن سقطت بلنسية بيدة في سنة 487هـ /1094م، فجعلها مقر حكمه، ونكبت بلنسية نكبتها الكمبيطورية، حيث تم إحرقها، ثم أمر الكبيادور بالقبض على ابن جحاف وأفراد أسرته، وعذبه عذابا شديدا، ثم أمر بإعدامه حرقا، فأقيمت له وقدة كبيرة في ساحة المدينة وأحرق فيها بصورة مروعة، ولقي هذا القاضي المجاهد مصيره بشجاعة مؤثرة، كذلك أمر بإحراق جماعة من أعلام بلنسية، ومنهم أبو جعفر البتي الشاعر المشهور.
وغادر بلنسية كثير من أهلها المسلمين، واحتل النصارى دورهم وأحياءهم، وغدا الكمبيادور وهو يزاول سلطانه بالقصر، كأنه ملك متوج، وسيد مملكة عظيمة، وغدا باستيلائه على بلنسية سيد شرقي الأندلس كله.
وروعت الأندلس لسقوط بلنسية في أيدي النصارى، كما روعت من قبل بسقوط طليطلة، وتوالى على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صريخ الأندلس، ورسائل أعيانها، تصف ما أصاب بلنسية وشرقي الأندلس من الدمار، وتقطيع الأوصال، والذل على يد النصارى.
نجدة المرابطين لمدينة بلنسية:
ولم يكن استرداد المرابطين لبلنسية عملية سهلة، كما أن هذه العملية ألحقت بالمدينة كثيرا من الدمار؛ فقد وصلت الجيوش المرابطية استجابة لاستغاثة أهل بلنسية سنة 488هـ/ 1095م، وحاصرتها، وحاولت دخولها أكثر من مرة. لكن السيد الكمبيادور كان يشن غارات مفاجئة على تلك الجيوش ثم يعود إلى داخل المدينة ويتحصن فيها. ثم تعاون مع قوات نصرانية أخرى من أرغون وقشتالة، وتمكن من هزيمة المسلمين سنة 490ه/ 1097م. وعندما وصلت أنباء ذلك إلى يوسف بن تاشفين، أنفذ جيشا بقيادة محمد بن الحاج سنة 490هـ/ 1097م، وقد سار هذا الجيش نحو طليطلة حيث هزم قوات ألفونسو السادس، وقتل ابن السيد القمبيطور الوحيد دون ديجو، وفي الوقت نفسه سير جيشا آخر بقيادة محمد بن عائشة نحو جزيرة شقر حيث التقى ببعض جنود القمبيطور وقتلهم شر قتلة، مما أصابه بالهم والغم اللذين توفي على أثرهما سنة 493هـ/ 1099م، فتولت مكانه زوجه خمينا الدفاع عن المدينة، واستطاعت أن تصمد أمام هجمات المرابطين، زهاء عامين آخرين.
بلنسية في عهد المرابطين:
وقد توجهت قوات مرابطية لحصار بلنسية بقيادة الأمير أبي محمد مزدلي، ابن عم يوسف بن تاشفين، الذي عسكر جنوب بلنسية. وكانت خيمينا في تلك الأثناء قد استنجدت بملك قشتالة ألفونسو السادس، فهب لنجدتها. ولكنه أدرك أنه لا قبل له بمواجهة الجيش الإسلامي، فآثر الانسحاب من بلنسية، بيد أنه أمر قبل خروجه بإحراق المدينة، ولم يغادرها إلا بعد أن غدا معظمها أطلالا دارسة. وفي اليوم التالي، الخامس من شهر مايو سنة 1102م / الموافق شعبان سنة 495هـ، دخل المرابطون بلنسية وعاد الثغر العظيم بذلك إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى، وعاد السلم يخيم على تلك الربوع، وانهار باختفاء السيد، أكبر عامل في بث الروع والاضطراب إلى شرقي الأندلس، ووقفت مغامرات النصارى في تلك الأنحاء مدى حين.
وبعد أن استعاد المسلمون بلنسية وليها الأمير مزدلي، واتخذها قاعدة لعمليات الجهاد والفتوح في شرقي الأندلس، وذلك بعد أن حول المرابطون خرائبها وأنقاضها إلى مدينة جديدة حافلة بالخير والعطاء. وظلت أحوال بلنسية مستقرة حتى ضعف المرابطون، ولم يعد لهم في الأندلس حول ولا طول، وعندئذ ثار فيها القاضي مروان بن عبد الله بن مروان بن خصاب سنة 537هـ/ 1142م، وملكها. لكن أهلها خلعوه بعد ثلاثة أشهر. وبايع أهلها بعده الأمير أبا محمد عبد الله بن سعيد بن مردنيش الجذامي الذي أقام مجاهدا حتى استشهد على يد النصارى سنة 540هـ/ 1145م. وقد بايع أهلها بعده عبد الله بن عياض، وكان ثائرا بمرسية، إلا أنه توفي سنة 542هـ/ 1147م، فتولاها محمد بن أحمد بن سعيد بن مردنيش، وظلت في يده حيث بايع الموحدين سنة 566هـ/ 1170م.
بلنسية في عهد الموحدين:
وفي سنة 566هـ/ 1170م، عبر الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المؤمن إلى الأندلس مجاهدا، وفتح كثيرا من حصون طليطلة ثم عاد إلى مراكش سنة 571هـ/ 1176م. ورجع إلى الأندلس على رأس جيش قوي سنة 580هـ/ 1184م، وقد أصيب بجراح خطيرة على يد النصارى بينما كان يحاصر لشبونة، وتوفي على أثر ذلك في السنة نفسها (580هـ/ 1184م). وفي عهد خليفته المنصور الموحدي يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، استأنف الموحدون الجهاد ضد النصارى، وتمكنوا من استعادة بعض المدن من أيديهم مثل شلب سنة 586هـ/ 1190م. ثم حققوا انتصارا ساحقا على النصارى في معركة الأرك في التاسع من شعبان سنة 591هـ/ 1195م فانكسرت شوكة النصارى إلى حين.
ولما استجمع النصارى قواهم، استأنفوا اعتداءاتهم على الأراضي الإسلامية في الأندلس، وتمكنوا بقيادة ملك قشتالة ألفونسو الثامن من إلحاق الهزيمة بالمسلمين في معركة العقاب سنة 609هـ/ 1212م. وبعد تلك المعركة التاث أمر الموحدين، وخارت قواهم إن في المغرب أو في الأندلس التي عادت إلى سابق عهدها من التشتت والفرقة، وانتزى السادة بنواحي الأندلس كل واحد منهم في عمله.
وقد استغل زيان بن أبي الحملات، من أعقاب دولة بني مردنيش، ضعف الموحدين، وثار في بلنسية، وملك زيان بلنسية، واتصلت الفتنة بينه وبين ابن هود، وزحف زيان للقائه على شريش، فانهزم، وتبعه ابن هود ونازله في بلنسية أياما، وامتنعت عليه فأقلع.
سقوط بلنسية الإسلامية بيد النصارى الصليبيين:
وكان البابا غريغوري التاسع أصدر مرسوما بإسباغ الصفة الصليبية على حروب إسقاط بلنسية. وبدأت هذه الحروب سنة 631هـ/ 1233م، ووقعت خلالها بين المسلمين والنصارى معارك كثيرة، ووقعت إحداها قرب أنيشة (أنيجة) سنة 634هـ/ 1236م، حيث احتل ملك أرغون خايمي الثاني هذا الحصن الواقع على بعد سبعة أميال شمال بلنسية. وقد حاول زيان استرجاع هذا الحصن، فوجه إليه قوة عسكرية بقيادة كبير علماء الأندلس ومحدثيها أبي الربيع سليمان بن سالم الكلاعي الذي لم يزل متقدما المسلمين، مقبلا على العدو، حتى استشهد.
وبعد أن شدد خايمي الثاني الحصار على بلنسية، وبلغ أهلها ما ذكرنا من ضنك، اضطرت إلى التسليم يوم الثلاثاء، السابع عشر من صفر سنة 636هـ/ سبتمبر سنة 1238م. وبعد أن دخل الطاغية الأرغوني خايمي الثاني بلنسية، غادرها عشرات الآلاف من أهلها المسلمين، وتم تحويل مساجدها إلى كنائس، ونال من بقي فيها من المسلمين كل أنواع الاضطهاد والأذى الذي تعدى الأحياء إلى الأموات؛ إذ نبشت قبورهم وخربت معالمها.
المعالم الإسلامية في بلنسية:
مع أن بلنسية بلغت أوج ازدهارها العمراني في عصر الأندلس ثم في زمن الموريسكيين (العرب المتنصرين) فمن النادر اليوم أن تشاهد في المدينة مسحة أندلسية موريسكية واضحة المعالم، وقد تعمد الإسبان طمس كل ما يشير إلى العهد العربي الإسلامي، كما أزيلت أسوار المدينة جميعها ولم يتبق منها سوى بوابتين.
في بلنسية معالم إسلامية كثيرة خلدت لجذورها الممتدة، ففيها بقايا أطلال حصن المنارة، وفيها أيضا شوارع مازالت حتى هذه اللحظة تحمل اسمها العربي، فثمة حي في بلنسية اسمه "الرصافة Calle de Ruzafa". وفي بلنسية كذلك بقايا حمامات عربية في شارع يدعى "حمامات الأميرال"، ومن معالم المدينة الأخرى محكمة المياه التي أنشأها عبد الرحمن الناصر، والألمودين (الأهراء العامة) وهو مبنى من العمارة الإسلامية.
كما أنه لا يمكن زيارة مدينة بلنسية أو فالنسيا في إسبانيا دون الوقوف على أحد أبرز رموزها التاريخية، وهو كاتدرائيتها الكبرى، التي يملؤها اليوم صدى الترانيم الذي يتردد بين أرجائها وقد تسمت باسم "كتدرائية العذراء"، والتي كانت في عهد المسلمين بالأندلس هي "الجامع الكبير" الذي لم يخمد فيه آذان طوال قرون متعاقبة، حيث أعادها الكمبيادور كنيسة سنة 487هـ / 1094م، ثم أعادها المرابطون مسجدا، حتى سقطت بلنسية في يد ملك أراغون، فشرع في بناء الكاتدرائية وأقيم إلى جوارها برج النواقيس.
تعد بلنسية اليوم مركزا من أهم مراكز الثقافة الإسبانية، ويرجع تاريخ جامعتها إلى خمسة قرون مضت، وملحق بها مكتبة عامة كبيرة وداران للمحفوظات والوثائق التاريخية تضمان كثيرا من المخطوطات والوثائق التي لها علاقة بالعرب المسلمين والموريسكيين.