يا حنظلة: ساعة، وساعة

0 1733

من خصائص السيرة النبوية الوسطية، ومن سمات الهدي النبوي الاعتدال والموازنة بين الروح والجسد، والإسلام عموما جاء بالوسطية كما قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}(البقرة: 143)، قال السعدي: "أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين"، وقال الطبري: "فلا هم (أي المسلمون) أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين أبدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل وسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها".
والنبي صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على الوسطية والموازنة بين الروح والجسد، فأوصى بإعطاء البدن حقه، والروح حقها، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) رواه مسلم، وهذا الدعاء يكشف عن توازن وتوسط بين الدين والدنيا.

والسيرة النبوية تحمل في طياتها وسماتها الوسطية والموازنة بين متطلبات الروح والجسد، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط (جمع دون العشرة من الرجال) إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها (استقلوها)، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) رواه البخاري. قال ابن حجر: "المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، ومعنى الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني.. وقوله: (فليس مني): أي على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة".
وفي هذا الموقف النبوي ظهرت تربيته لأصحابه على الوسطية، والاعتدال والموازنة بين متطلبات الروح والجسد، فقد ظن هؤلاء الصحابة أن عبادته صلى الله عليه وسلم كانت قليلة لكونه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما هم فليس الشأن فيهم كذلك، ولذا ينبغي عليهم أن يشددوا على أنفسهم، ويشمروا عن ساعد الجد في العبادة والطاعة، ولو كان ذلك على حساب متطلباتهم البدنية ومجاوزة الهدي النبوي، اجتهادا منهم، رجاء أن يغفر الله لهم، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم لهم ولمن يأتي بعدهم هذا الخطأ، من خلال بيان أن هديه في العبادة التي حسبوها قليلة لم يكن نتيجة لغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو سنته المبنية على الموازنة بين الروح والجسد، والوسطية التي يحبها الله تعالى دون تفريط أو مغالاة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) رواه أحمد وصححه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، قالها ثلاثا) رواه مسلم، قال النووي: "أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم".

ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت (كسلت وضعفت عن الصلاة) تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها". وقال ابن تيمية: "قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (هلك المتنطعون).. فكثيرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر".

ـ عن أبي جحيفة عن أبيه قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة (لابسة ثياب عمل البيت تاركة للزينة، وذلك قبل نزول الحجاب)، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال له: كل، قال: فإني صائم! قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل! فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: ثم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا! ولنفسك عليك حقا! ولأهلك عليك حقا! فأعط كل ذي حق حقه! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) رواه البخاري. قال ابن حجر: "صدق سلمان أي: في جميع ما ذكر". وهذا القول الذي قاله سلمان لأبي الدرداء رضي الله عنهما هو القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك (ضيوفك) عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله، ـ فشددت فشدد علي ـ قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة؟ قال: فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه. قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: نصف الدهر. فكان عبد الله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم).

ـ عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه قال: قال: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا (لاعبنا) الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة: ساعة، وساعة، ثلاث مرات) رواه مسلم.
ومعنى (ساعة، وساعة)أي ساعة تعبد فيها الله، وساعة أخرى تقيم حياتك على ما شرعه الله لك (وهي داخلة أيضا في العبادة)، وليس المقصود بساعة وساعة أن تعبد الله ساعة، ثم تعصيه ساعة أخرى، وإنما المقصود: ساعة تصلي فيها بين يدي الله، وساعة أخرى تقضي فيها أمورك الدنيوية وفق ما أحله الله عز وجل، قال النووي: "قوله: (نافق حنظلة) معناه: أنه خاف أنه منافق، حيث كان يحصل له الخوف في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك". وقال ابن عثيمين: "يعني ساعة للرب عز وجل، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم".

السيرة النبوية المطهرة من سماتها الواضحة الوسطية والموازنة بين حاجات الروح ومطالب الجسد، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، فلكل من الروح والجسد حقوقه وخواصه، وقد قال الله تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}(القصص:77)، قال ابن كثير: "أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة. {ولا تنس نصيبك من الدنيا} أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزورك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه".. إن مدار الأمر في سعادة المسلم في حياته ونجاته في الآخرة في اتباعه لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، دون إفراط ولا تفريط، أو زيادة أو نقصان، قال ابن قدامة: "وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضا الرب سبحانه وتعالى، ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودعة (أمان واستراحة) البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة