لا يَجْزي بالسَّيِّئة السَّيِّئة، ولكن يعفو ويصفح

0 1479

مما يدعو إلى العجب أن من مطاعن أعداء الإسلام واتهاماتهم الباطلة التي يلقونها على نبينا صلى الله عليه وسلم اتهامه بالشدة والعنف، مع أن حياته وسيرته العطرة تبين وتؤكد أن رحمته صلوات الله وسلامه عليه كانت من أخص شمائله وأخلاقه التي لم تفارقه أبدا في رضاه وغضبه، وسلمه وحربه، بل وشملت المؤمن والكافر، ومن آذاه ومن لم يؤذه، وقد قال الله تعالى عنه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء:107)، قال ابن كثير: "يخبر تعالى أن الله جعل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم"، وقال السعدي: "فهو رحمته المهداة لعباده"، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة) رواه الحاكم وصححه الألباني. قال ابن تيمية: "الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى هدى ورحمة للعالمين، فإنه كما أرسله بالعلم والهدى والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم".

ومن صور ومظاهر رحمته وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن رسول الله فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) رواه الترمذي وصححه الألباني. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه (جذبه) بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) رواه مسلم، قال النووي: "فيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه.. وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه". وقال ابن حجر: "وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن".
وبالعفو والإحسان مع من آذاه عرف ووصف صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ـ قبل تحريفها ـ، وشهد له بذلك أعداؤه الذين آذوه، والأدلة والأمثلة على ذلك من سيرته صلى الله عليه وسلك كثيرة، منها:

في التوراة:
عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال: (لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت له: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين (حفاظا لهم). أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب (صياح) بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح) رواه البخاري. وفي رواية أخرى للبخاري: (ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر). وروى البيهقي عن عبد الله بن سلام ـ من كبار علماء يهود بني قينقاع وأسلم ـ قال: (إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز).

في الإنجيل:
قال السيوطي: "أخرج ابن سعد والحاكم وصححه، والبيهقي وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب في الانجيل: لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح)" حسنه الألباني.

مع عدوه ومن آذاه:
غاية ما يرجى من نفس بشرية كانت مظلومة فانتصرت أن تقتص من غير إسراف في إراقة الدماء، ولكن نبينا صلى الله عليه وسلم من شمائله وأخلاقه التي عرف وذكر بها في الكتب السابقة: لا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح.. ولذلك لم يكن عدم مقابلة الإساءة بالإساءة، ومقابلة الإساءة بالإحسان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أمرا مقصورا على المسلمين فقط، بل تعداهم للكافرين الذين آذوه، فهو خلق نبوي عام وشامل، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عقبة! صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك) رواه أحمد وصححه الألباني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (قيل: يا رسول الله! ادع على المشركين، قال صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم.

ويصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عفو النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانه مع من آذاه من المشركين فيقول: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء (يعني نفسه)، ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) رواه البخاري. قال القاضي عياض: "انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان، وحسن الخلق وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم، ودعا وشفع لهم، فقال: اغفر أو اهد، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال: فإنهم لا يعلمون".

وفي غزوة حنين رفعت قبيلة هوازن راية الحرب ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وولوا عليهم مالك بن عوف النصري، وقد انتصر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم انتصارا عظيما، وأعلن أن من جاء من هوازن (الذين فروا بعد المعركة) مسلما رد إليه ماله وأهله، فرجع وفد منهم إليه وأعلنوا إسلامهم. وأكمل النبي صلى الله عليه وسلم عفوه وإحسانه معهم، فسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف، فقالوا هو بالطائف مع ثقيف، فقال ـ كما ذكرابن هشام وابن كثير في السيرة النبوية، والبيهقي في دلائل النبوة ـ: "(أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل)"، فلما بلغ ذلك مالكا ركب فرسه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، فأسلم وحسن إسلامه، فكان مالك بن عوف رضي الله عنه يقول مادحا النبي صلى الله عليه وسلم: 
          ما إن رأيت ولا سمعت بمثله     في الناس كلهم بمثل محمد
ومع حلم وعفو وإحسان النبي صلى الله عليه وسلم مع من آذاه وأخطأ في حقه، إلا أنه كان يغضب للحق إذا انتهكت حرماته، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها) رواه البخاري، وفيما عدا ـ انتهاك حرمات الله عز وجل ـ كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأعفاهم عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب، أو مسيء لا يعرف قدره ومنزلته، أو كافر يريد إيذاءه وقتله، مع قدرته من الانتقام منه.. فكان حاله صلوات الله وسلامه عليه كما عرف عنه أهله وأصحابه وأعداؤه: لا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، وكان ذلك منه امتثالا لقول الله تعالى له: {فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}(المائدة: 13)، قال السعدي: "{فاعف عنهم واصفح} أي: لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى، واصفح، فإن ذلك من الإحسان {إن الله يحب المحسنين} والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وفي حق المخلوقين: بذل النفع الديني والدنيوي لهم". وقال الطبري: "يقول الله جل وعز له: اعف، يا محمد، عن هؤلاء اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرض لمكروههم، فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه".

           يعفو ويصفح قادرا عمن جنى      عملا بقول الله فاعف واصفح

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة