- اسم الكاتب:د. راغب السرجاني
- التصنيف:تاريخ و حضارة
يقول نيتشه فيلسوف الغرب: "الضعفاء العجزة يجب أن يفنوا! هذا هو أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية! ويجب أيضا أن يساعدوا على هذا الفناء".
لكن فلسفة الإسلام وشريعته لم تكن يوما لتحيد عن القيم والأخلاق، والتي تمثلت في إقرار مجموعة من الحقوق التي شملت كل بني الإنسان، دون تمييز بين لون أو جنس أو لغة، وشملت أيضا محيطه الذي يتعامل معه، وتمثلت كذلك في صيانة الإسلام لهذه الحقوق بسلطان الشريعة، وكفالة تطبيقها، وفرض العقوبات على من يعتدي عليها.
نظرة الإسلام للإنسان:
ينظر الإسلام إلى الإنسان نظرة راقية فيها تكريم وتعظيم، انطلاقا من قوله تعالى: { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} [الإسراء: 70].
وهذه النظرة جعلت لحقوق الإنسان في الإسلام خصائص ومميزات خاصة، من أهمها شمولية هذه الحقوق؛ فهي سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية. كما أنها عامة لكل الأفراد، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، دون تمييز بين لون أو جنس أو لغة، وهي كذلك غير قابلة للإلغاء أو التبديل؛ لأنها مرتبطة بتعاليم رب العالمين.
وقد قرر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، التي كانت بمنزلة تقرير شامل لحقوق الإنسان، حين قال: "... فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم"( البخاري) . حيث أكدت هذه الخطبة النبوية جملة من الحقوق؛ أهمها: حرمة الدماء، والأموال، والأعراض.. وغيرها.
وقال أيضا يعظم من شأن النفس الإنسانية عامة، فيحفظ لها أعظم حقوقها وهو حق الحياة، فيقول عندما سئل عن الكبائر: "الإشراك بالله.. وقتل النفس.." (البخاري). فجاءت كلمة النفس عامة لتشمل أي نفس تقتل دون وجه حق.
ثم ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أكثر من ذلك حين شرع حفظ حياة الإنسان من نفسه، وذلك بتحريم الانتحار، فقال: " من تردى من جبل فقتل نفسه ، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تحسى سما فقتل نفسه ، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " (البخاري).
هذا، وقد حرم الإسلام كل عمل ينتقص من حق الحياة؛ سواء أكان هذا العمل تخويفا، أو إهانة، أو ضربا، فعن هشام بن حكيم، قال: سمعت رسول الله يقول: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" ( ابن حبان).
المساواة بين الناس:
وبعد تكريم الإنسان بصفة عامة، وتقرير حرمة الدماء والأعراض والأموال، وحق الحياة، أكد على حق المساواة بين الناس جميعا؛ بين الأفراد والجماعات، وبين الأجناس والشعوب، وبين الحكام والمحكومين، وبين الولاة والرعية، فلا قيود ولا استثناءات، ولا فرق في التشريع بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين حاكم ومحكوم، وإنما التفاضل بين الناس بالتقوى، فقال: "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى"(أحمد والطبراني).
العدل في الإسلام
ويرتبط بحق المساواة حق آخر وهو العدل، ومن روائع ما يروى في هذا الصدد قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد عندما ذهب ليشفع في المرأة المخزومية التي سرقت: " والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " (البخاري).
وكانصلى الله عليه وسلم ينهى كذلك عن مصادرة حق الفرد في الدفاع عن نفسه تحريا للعدالة، فيقول: "... فإن لصاحب الـحق مقالا..." ( البخاري). ويقول لمن يتولى الحكم والقضاء بين الناس: " فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين ، حتى تسمع من الآخر ، كما سمعت من الأول ؛ فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء "(أبوداود)
حق الكفاية في الإسلام
وفي حق فريد تختص به شريعة الإسلام، لم يتطرق إليه نظام وضعي ولا ميثاق من مواثيق حقوق الإنسان، يأتي حق الكفاية، ومعناه أن يحصل كل فرد يعيش في كنف الدولة الإسلامية على كفايته من مقومات الحياة؛ بحيث يحيا حياة كريمة، ويتحقق له المستوى اللائق للمعيشة، وهو يختلف عن حد الكفاف الذي تحدثت عنه النظم الوضعية، والذي يعني الحد الأدنى لمعيشة الإنسان.
وحق الكفاية هذا يتحقق بالعمل، فإذا عجز الفرد فالزكاة، فإذا عجزت الزكاة عن سد كفاية المحتاجين تأتى ميزانية الدولة لسداد هذه الكفاية، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: " فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا، أو ضياعا فليأتني وأنا مولاه " (البخاري) ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكدا على هذا الحق: "ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به" (الحاكم ) وقال مادحا: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالـمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم" (مسلم).
حقوق المدنيين والأسرى
وإن حقوق الإنسان لتصل إلى أوج عظمتها حين تتعلق بحقوق المدنيين والأسرى أثناء الحروب، فالشأن في الحروب أنها يغلب عليها روح الانتقام والتنكيل، لا روح الإنسانية والرحمة، ولكن الإسلام كان له منهج إنساني تحكمه الرحمة، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخا" (مسلم).
وهكذا، فهذا بعض مما قننه الإسلام ووضعه كحقوق للإنسان على ظهر البسيطة، وهي في مجملها تعكس النظرة الإنسانية التي هي روح حضارة المسلمين.