إنك لا تهْدي مَنْ أحببْتَ

0 1688

أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عم نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي كان يدافع عنه ويرد على كل من يؤذيه من مشركي قريش، وهو القائل:
         والله لن يصلوا إليك بجمعهم            حتى أوسد في التراب دفينا 
         فامضي لأمرك ما عليك غضاضة     أبشر وقر بذاك منك عيونا
         ودعوتني وزعمت أنك ناصحي        فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
         وعرضت دينا قد عرفت بأنه           من خير أديان البرية دينا 
         لولا الملامة أو حذاري سبة            لوجدتني سمحا بذاك مبينا

لقد ظل أبو طالب على دين قومه من الكفر، وكاد أن يستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم ويسلم لولا أن حال بينه وبين الهداية أصحاب السوء، حتى فارق الحياة على ملة قريش.
إنك لا تهدي من أحببت :
عندما حضرت الوفاة أبا طالب جاءه زعماء الشرك وحرضوه على الاستمساك بدينه ودين أجداده، وعدم الدخول في الإسلام قائلين له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟!.. فقد عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأبى ومات على كفره. فعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة: (يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى فيه: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}(التوبة: 113)) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب ـ وهو في مرض موته ـ: (قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}(القصص: 56)) رواه البخاري.
قال ابن كثير في تفسيره: "يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: إنك يا محمد {إنك لا تهدي من أحببت}(القصص: 56)، أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}(البقرة:272)، وقال: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}(يوسف:103)، وهذه الآية أخص من هذا كله، فإنه قال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}(القصص:56)، أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية بمن يستحق الغواية، وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا .. فلما حضرته الوفاة وحان أجله، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فسبق القدر فيه، واختطف من يده، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة التامة".
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يهدي من أحب هدايته، ولكنه جل وعلا هو الذي يهدي من يشاء هداه، والآية نزلت في أبي طالب، أحب النبي صلى الله عليه وسلم هدايته ولكن الله لم يقدرها له".

فائدة: الهداية نوعان:
 النوع الأول: هداية توفيق، وتفضل من الله سبحانه على العبد بهدايته إلى دينه وطاعته، وتيسير سلوك طريق النجاة والفلاح له، ولا يملكها إلا الله عز وجل، قال الله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له}(الأعراف:186)،وقال سبحانه:{وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد}(الحج:16)، وهذا النوع هو الذي نفاه الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}(القصص: 56).

النوع الثاني
: هداية الإرشاد والدعوة والبيان، وهي المرادة بقوله تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}(الشورى:52)، وقوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}(السجدة:24)، وقوله تعالى في حكاية مؤمن آل فرعون مع قومه في قوله لهم: {وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد}(غافر:38)، وهي التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم (الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب)) رواه البخاري.
وهذا النوع ـ وهو هداية الدعوة والبيان والإرشاد ـ هو المطلوب من المسلم، فيبين للناس طريق الخير والحق، ويقوم بما أوجب الله عليه به من الدعوة إلى الله بعلم ورفق وحكمة وصبر، ويسأل الله سبحانه أن يجعله من عباده الذي قال فيهم: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}(الأعراف:181).. ومن ثم فالهداية المنفية عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}(القصص: 56) هي الهداية الخاصة (النوع الأول)، إذ التوفيق بيد الله سبحانه، أما الهداية المثبتة له صلوات الله وسلامه عليه في قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}(الشورى:52)، فهي الهداية بمعناها العام، وهي إبانة الطريق، وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم، وقام به أحسن القيام، وأتمه خير التمام، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى لأبي طالب الهداية والإسلام، ويبذل وسعه في ذلك، فهو عمه وكافله وناصره وأقرب الناس إليه، ومع ذلك لم يسلم ومات كافرا، وهذا درس من دروس السيرة النبوية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق عند الله عز وجل، ومع ذلك لم يهد الله عز وجل له عمه، ومات كافرا ودخل النار، فالمطلوب من المؤمنين بذل الجهد والسعي والدعوة إلى الله عز وجل، أما النتيجة والهداية فبيد الله تعالى وحده، قال الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام}(الأنعام:125)، وقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}(القصص: 56).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة