- اسم الكاتب:د. سلمان بن فهد العودة
- التصنيف:محاسن الأخلاق
في إحدى محاضراتي بدأت الحضور بسؤال: كيف تحب أن تلقى الله؟
أجابوا بصوت واحد: أن أموت ساجدا.
لم يفاجئني الجواب، فهو شيء أتمناه لنفسي، و"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" أخرجه مسلم (482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وكان أبو ثعلبة رضي الله عنه يتمنى ميتة حسنة، فمات وهو ساجد في صلاة الليل. الآحاد والمثاني (2628)، وحلية الأولياء (2/30،31)، وتاريخ دمشق (66/104)، وسير أعلام النبلاء (2/570).
لو سألت محرك البحث (google) عمن ماتوا ساجدين لسرد لك قائمة طويلة من المتقدمين والمتأخرين، ومن الحقائق والظنون والشائعات!
الشهيد أعظم عند الله منزلة: {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} (الحديد، من الآية:19).
الفاروق العظيم جمع الله له بين الشهادة، وأن يموت في صلاته، وفي بلد رسوله صلى الله عليه وسلم.
كيف رحل آدم؟ بل: كيف عاش؟
عاش وفيا للرسالة، للخلافة في الأرض بالبناء والإعمار، عاملا على حقن الدم ومنع الفساد، والوفاء للميثاق الأول.
تذكر الروايات أنه مرض، وأحس بقرب الرحيل، وشاركته زوجه الإحساس ذاته، وكان يردد الكلمات المباركات التي تلقاها من ربه، التوحيد والاستغفار والاعتراف بالذنب: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).
لك أن تبحث عن أثر التعبد في حياتنا ونحن نحتشد في المساجد، ونسارع إلى العمرة بعد العمرة والحج بعد الحج، ونتلو آيات الذكر الكاشفة عن الفرق بين مهمة آدم ومهمة الملائكة..
لم لا يكون من بيننا من يحب أن يعيش حياته منهمكا في عمل خير وإحسان ونفع للفقير والمسكين والغريب والمريض والصغير؟ وهو إحسان يتعدى نفعه للآخرين ولا يقتصر على صاحبه.
أو لا يكون من بيننا من يحب أن يعيش حياته عاكفا على بحث معرفي يكشف فيه غامضا أو يجلي ملتبسا أو يقرر قاعدة أو يدفع العلم البشري إلى الأمام، ولو خطوة صغيرة؟ والعلم هو ميزة آدم التي خولته الخلافة في الأرض وسجود الملائكة.
أو لا يكون من بيننا من يحب أن يظل على رأس عمل أو وظيفة نذر أن يكون فيها مخلصا لله، نافعا لعباد الله، مبتسما للناس، قائما بحقوقهم، صابرا على أذاهم؟ ولو كان يكسب من ورائها رزقه وقوت ولده فهذا في سبيل الله.
أو لا يكون من بيننا من يحب أن يقضي عمره مغتربا في دعوة أو إصلاح أو معروف لا يريد من ورائها رياء ولا سمعة، قصده أن يأخذ بأيدي الشاردين إلى الحق، وأن يهدئ النفوس الثائرة حتى تلين، وأن يجمع شتات القلوب على الخير، وهو يدري أن الأبوين جابا فجاج الأرض شرقا وغربا، وكانت كلها لهم وطنا؟!
أو لا يكون من بيننا من حلمه أن يعمر طويلا ممتعا بقواه حتى يرى فرج الله وفتحه للمستضعفين، وهو يعلم أن آدم وحواء عاشا مئات السنين، و"خيركم من طال عمره وحسن عمله"؟!
أو لا يكون من بيننا من حلمه أن ينسأ الله في أثره ويوسع في رزقه، لا استكثارا للأرصدة، بل يكون ممن آتاه الله مالا فقال فيه هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وأنجز فيه مشاريع البر والصدقة والإحسان؟
أو لا يكون من بيننا من حلمه أن يبقى ليلهم الأجيال خلاصة تجربة حية، ويتحدث بالحكمة والبصيرة من عبر الأيام، ليكون ممن دعا إلى هدى أو حذر من ردى، وليحمي غيره من تكرار تجارب منقوصة أو فاشلة، ويصنع بذلك التراكم المعرفي والحياتي؟
أو لا يكون من بيننا من يسجد ويقنت فيكون بكاؤه ودعاؤه التماسا لنهضة الأمة أو بعض شعوبها ويقظتها من سباتها الطويل؟ ولن تكون الدموع ولا الخشوع وسيلة للنجاح ما لم تتحول إلى إرادة صادقة مخلصة وعمل جاد دؤوب لا يعرف اليأس.
أو لا يكون من بيننا من يتجاوز خياله الإيجابي حدود الواقع البائس إلى مستقبل مليء بالبشريات؟ وحين يقول إنه يحلم أن يرى الأرض المحتلة وبيت المقدس وقد عادت لأصحابها وتخلصت من قبضة الطغاة الظالمين، فهو لا يخادع نفسه ولا يتمنى الأماني، ولكنه يتكئ على الثقة بوعد الله.
أو لا يكون من بيننا من حلمه ألا يغادر الحياة قبل أن يترك بصمة صادقة يذكر بها فيشكر ويدعى له؟ "صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، أليس جديرا أن نتأسى بالمعلم الأول آدم، وأن ندعو له على ما ورث وألهم؟!
صلى الله على آدم وعلى ذريته من النبيين والمرسلين والشهداء والصديقين والصالحين.
وصلى الله على سيد ولد آدم الذي قال قبل أن يموت بثلاثة أيام: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن" أخرجه مسلم (2877) من حديث جابر رضي الله عنه.