- اسم الكاتب:د.هيثم طلعت-إسلام ويب
- التصنيف:تعزيز اليقين
حين تطالع أية خلية حية لترصد ما بها من عمليات حيوية –بيولوجيا جزيئية Molecular biology-، فإنك بحاجة إلى تكبيرها مئات المليارات من المرات، عند هذا القدر من التكبير تصبح الخلية بحجم مدينة القاهرة الكبرى، وترصد داخلها معدلا من التعقيد ربما يفوق تعقيد مدينة القاهرة بمرافقها، وساعتها ستكون أمام رصد مباشر للتعقيد والتصميم والصنع البديع!
وإذا وصلت إلى غشاء الخلية الخارجي فإنك تشاهد أمامك ملايين البوابات التي تفتح وتغلق بانتظام لدخول وخروج المواد من وإلى الخلية، ويحدث التنسيق التام بين هذه البوابات.
وهذا التنسيق بين البوابات يكون آنيا –لحظيا-، فعندما تدخل جزيئة جلكوز لتغذية الخلية عبر إحدى البوابات تكون معلومة دخولها قد وصلت إلى جميع البوابات الأخرى في نفس اللحظة.
وتستخدم الخلية لنقل المعلومات عبر البوابات بهذه السرعة ظاهرة في فيزياء الكم Quantum Physics تسمى ظاهرة التشابك الكمومي Quantum entanglement حيث تنتقل المعلومة بسرعة آنية معجزة، فلا يحدث دخول عدد زائد من جزيئات الجلكوز إلى الخلية، وهي نفس الظاهرة التي استطاع علماء الكمبيوتر الاستفادة منها في شرائح الكمبيوتر liquid crystal semiconductor with gates and channels لكن الخلية تستخدم هذه الظاهرة منذ البدء وبمنتهى الإتقان! -1-
هنا مبرمج الكمبيوتر استطاع بمنتهى الحكمة والمهارة توظيف ظاهرة علمية فيزيائية في مهمة وظيفية داخل الكمبيوتر، وبنفس القياس العقلي منظومة التواصل بين بوابات غشاء الخلية نتاج حكمة وصنع وليست خبط عشواء كما يفترض الملاحدة!
المهم أننا بعد عبور البوابات يطالعنا على الفور عالم من التقنيات الخارقة والتعقيد المذهل؛ فنرى:
1- أروقة لا نهائية شديدة التنظيم والتداخل والتعقيد–الشبكة الإندوبلازمية Endoplasmic reticulum – وهذه الشبكة من الطرق والأروقة تمثل طرق النقل الرئيسية داخل الخلية إلى المصانع والعضيات والنواة والمخازن وأماكن النفايات.
وتؤدي الأروقة إلى:
2- بنك الذاكرة المركزي في النواة DNA.
3- مصانع تركيب البروتينات –الريبوزومات Ribosome -.
4- وحدات إنتاج الطاقة –الميتوكوندريا mitochondria –.
5- مصانع الجزئيات المتخصصة –جهاز جولجي Golgi apparatus- .
6- مناطق حرق النفايات والمخلفات والزائد عن الحاجة والميكروبات–الليسوسومات Lysosome-.
7- وحدات التخطيط المركزي –السنتروسوم Centriole - التي تدير انقسام الخلية وظهور الأهداب.
8- مخازن الغلال –الفجوات العصارية Vacuole- حيث تخزن الأطعمة الزائدة.
9- مصانع إنتاج الحمض النووي RNA –النوية Nucleolus-.
وما لا حصر له من العضيات التي ما زلنا نكتشفها حتى الساعة ونرصد عجائبها! -2-
ولو وصلنا إلى نواة الخلية عبر إحدى هذه الطرق والأروقة، فإننا سنصطدم ببوابات من نوع خاص جدا تحيط بالنواة من كل جانب، فلا تقبل أي زائر لأنها مركز برمجة الخلية، بينما ترحب دوما بإنزيم البوليمريز polymerase الذي يحمل دائما معه رسائل تصنيع البروتينات، فجميع الطلبات التي يحتاجها الكائن الحي من البروتين توجد مشفرة في نواة الخلية داخل شريط الDNA بنظام التشفير الرباعي CGTA وهذا التشفير يملأ 1000 مجلد بواقع 500 صفحة لكل مجلد - 3 مليار حرف - كلها موجودة في مساحة 1 على 1000 من الملليمتر ملتف على نفسه 100 ألف لفة، في ومضة من ومضات إعجاز الخلق الإلهي!
وحين يصل إنزيم البوليمريز إلى نواة الخلية فإنه يقوم بفتح شريط DNA كالسوسته ليخرج البيانات، وهذا الفتح السريع ربما يؤدي إلى الحرق لكن الأمر معد بعناية والتنظيف والتبريد أولا بأول لا يتوقف- حيث توجد إنزيمات التبريد داخل نواة الخلية-، ويقوم الإنزيم بفتح الجزء اللولبي من ال DNA ويبقيه مفتوحا حتى يتم استخراج كافة المعلومات – المشفرة - لتصنيع البروتين ولا يتم فتح أية أجزاء أخرى لا حاجة إليها. -3-
وبعد الحصول على الشفرة المطلوبة لتصنيع البروتين المحدد، فإن عضيات RNA الرسول تقوم بحمل الشفرة إلى الريبوزوم – مكان تصنيع البروتين – في السيتوبلازم cytoplasm، وفي أثناء الذهاب إلى الريبوزوم فإن المسافة طويلة نسبيا وبالتالي يكون عرضة للتشوه لذا يحاط دائما بإنزيمات الحماية والأمان. -4-
وما أن تصل شفرة تصنيع البروتين إلى الريبوزوم تظهر مشكلة جوهرية، فلغة المعلومة في الDNA هي لغة الكودون codon المكون من 3 حروف – قواعد نيتروجينية –، في حين لغة الحمض الأميني هي لغة من 20 حرف20 – نوع حمض أميني -، ولأجل ترجمة لغة الكودون إلى لغة الحمض الأميني فإنه يوجد في الريبوزوم قرابة 100 جزيء يختص بالترجمة.
وبعد الترجمة المتخصصة تتحول الشفرة إلى كائن ثلاثي الأبعاد يقوم بوظيفة يسمى "البروتين" .-5-
تعمل كل الآلات والعضيات السابقة والمشابهة للروبوتات بشكل متزامن جيئة وذهابا بين كم هائل من المنتجات والمواد الأولية على طول الطرق، لكن كل شيء يتحرك هنا بدقة وتناغم.
بالفعل إن مستوى التنظيم الكامن في الحركات المتناسقة للعديد من الأشياء على طول تلك الأقنية -بانسجام تام- لأمر يذهب العقول.
ناهيك عن التخصصية الشديدة داخل كل عضية من عضيات الخلية وكأنك أمام مصانع مستقلة، لكن أن تخرج من كل هذه الأنظمة بنتائج مثالية لمصلحة الكائن الحي لهو إعجاز يفوق كل ما نستطيع أن نسطره من كلمات.
وفي هذا العرض المتأني لنشاطات العضيات الخارقة؛ ندرك بسرعة أنه بغض النظر عن كل المعرفة المتراكمة لدينا عن علوم الطبيعة والهندسة، فإن مهمة تصميم حتى أبسط هذه العضيات أمر خارج عن مقدرتنا بشكل كامل.
فنحن بكل ما نملك من علوم عملاقة ومصانع جبارة وجامعات كبرى نعجز عن إنتاج هرومون واحد من الهرمونات التي تفرزها الخلية، فلا نتنج الهرومون –كالإنسولين insulin لمرضى السكر- إلا من خلال الاعتماد التام على منظومات الكائنات الحية.
فمع علمنا التام بتركيب الهرومون وشكله الهندسي ومراكز تصنيعه، فإننا مع ذلك نعجز عن توليده دون الاعتماد على عمليات حيوية داخل كائن حي سواء وحيد الخلية كالباكتريا أو متعدد الخلايا كبعض الحيوانات.
إن الإشارات كلها داخل الخلية توحي لنا بشكل مباشر بوجود الصنع المتقن.
ولا ندري لماذا يرفض التطوريون قضية الصنع المتقن؟
ألا تخضع كل النظريات العلمية نفسها للتجارب الصارمة، فليعتبروها نظرية إلى أن يستطيعوا دحضها ولن يفعلوا!
إن العلم مشروع جريء؛ فهو يقوم بالمخاطرات ويتحمل تكلفة القيام بتلك المخاطرات لأنه على اتصال دائم بالدليل التجريبي، ولذا يمكنه أن يصحح نفسه بنفسه في ضوء الحقائق الجديدة. -6-
وإذا كان العلم المادي يعترف بالفشل الذريع في تفسير أصل الحياة وتفسير ظهور الخلية، فما المانع أن يقر العلم بالصنع المتقن كقضية مفسرة لأصل الحياة، وليضع العلم قيدا ثابتا أنه ما أن ياتي تحليل مادي متكامل يستطيع تفسير نشوء الحياة سيتم التنازل ساعتها عن الصنع المتقن!
وبما أن الخلية الحية منظومة معلوماتية عالية الإتقان، وطالما أن طرح الصنع المتقن مبني على المعرفة بدلا من الجهل، فهو مشروع علميا.
لاحظ أن هذا الاحتمال بالذات يظهر أن الصنع المتقن قابل للاختبار –وبالتالي فهو قضية علمية-، فالطريقة الوحيدة لتحديد صحة أية فرضية هي من خلال الاعتراف بأنها خيار علمي حي، ويجب إخضاعها لخصائص العلم شديدة الغربلة والفحص.
لكن للأسف الشديد الحال اليوم هو رفض الصنع المتقن ابتداء بسبب مقدمات مادية إلحادية لا يرغب منظروها في التخلي عنها، رغم فشل تلك المقدمات المادية في الإجابة عن الأسئلة الجوهرية مثل: كيف نشأت الحياة؟ وما مصدرها؟ وما هي الحياة؟ وكيف حدث الانتواع المفاجيء للكائنات الحية في فترة بداية عصر الكامبري Cambrian period القصيرة نسبيا؟ وكيف ظهرت هذه الأنظمة عالية التعقيد؟
مشكلة التطوريون عموما أنهم يعيشون على مبدأ فرق تسد، فإذا ذكرت لهم تعقيد الخلية الشديد فإنهم ينقلونك إلى خلايا أبسط، مع أن أبسط الخلايا الحية على الإطلاق تحتوي على آلاف البروتينات المتخصصة.
إن الخيال مجاني؛ وقوام ردود التطوريون قائمة على خيالات لا حقائق، وفروض لا رصد، واحتمالات لا ثوابت؛ بينما قوام الصنع المتقن على حقائق وبديهيات ومسلمات عقلية ورصد إعجازي لكل منظومة حية.
وها نحن ندعو في نهاية هذا المبحث عن التطور إلى الدفع بالعلم باتجاه تحرير قضية الصنع المتقن، وإن كنا ندرك أن دعاة المادية وإن صادفتهم هذه الدعوى فلن يعيروها اهتماما، لأن مقدماتهم الاعتقادية تأبى عليهم ذلك، ولأنهم كما قلنا منذ البداية يريدونها "مادية إلحادية" ولذا لن يقبلوا بالبديل، وإن كان أقوى حجة وأرسخ قدما وأثبت أدلة.
فلله الأمر من قبل ومن بعد!
{الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون (٥٩) أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (٦٠) أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (٦١) أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (٦٢) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون (٦٣) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (٦٤) قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون (٦٥) بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (٦٦) وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (٦٧) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (٦٨) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين (٦٩) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون } سورة النمل.
هوامش المقال
----------------
1- http://www.theantiagingdoctor.com/72NewBiologyandTransformation.htm
2- http://bioserv.fiu.edu/walterm/FallSpring/review1_fall05_chap_cell3.htm
3- Friedberg EC (February 2006). "The eureka enzyme: the discovery of DNA polymerase". Nat. Rev. Mol. Cell Biol. 7
4- http://www.britannica.com/EBchecked/topic/602542/transfer-RNA-tRNA
5- http://www.elmhurst.edu/chm/vchembook/584proteinsyn.html
6- تصميم الحياة، د.ويليام ديمبسكي ود.جوناثان ويلز، ترجمة د.مؤمن الحسن وآخرين، دار الكاتب ص345