تصدّقن يا معشر النّساء

0 1685

باب التنافس في أعمال البر والخير ليس مقصورا على الرجال دون النساء، بل هو مفتوح على مصراعيه للجميع، والأصل في الأوامر أنها للرجال والنساء معا، ما لم يدل الدليل على تخصيص الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال، وقد قال الله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}(المطففين:26)، وقال: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}(النحل:97)، قال ابن كثير: "هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا ـ وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه ـ من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله.. بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة". وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما النساء شقائق الرجال) رواه الترمذي وصححه الألباني، قال المناوي: "لأن النساء شقائق الرجال كما هو مطرد في جل (معظم) الأحكام، حيث يدخلن مع الرجال تبعا إلا ما خصه الدليل".

ومن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه الخاصة بالنساء، موقفه صلى الله عليه وسلم مع زينب الثقفية زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، والتي تحدثنا عنه فتقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر (جماعة) النساء، ولو من حليكن، قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد (كناية عن الفقر)، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم. فقال لي عبد الله: بل ائتيه أنت. قالت: فانطلقت، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة. قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الزيانب؟ قال امرأة عبد الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة) رواه مسلم. والمرأة التي لقيتها زينب امرأة عبد الله بن مسعود عندما ذهبت لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم هي: زينب امرأة أبي مسعود، قال القسطلاني في إرشاد الساري: "هي زينب امرأة أبي مسعود يعني عقبة بن عمرو الأنصاري كما عند ابن الأثير في أسد الغابة".

وفي هذا الموقف النبوي مع زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما الكثير من الفوائد والعبر، ومنها:
فضل الصدقة على الأقارب وصلة الرحم :
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة) فيه الحث على الصدقة على الأقارب، وصلة الأرحام، وأن فيها أجرين"، وقال ابن حجر: "وفيه الحث على صلة الرحم"، وقال ابن عثيمين: "صلة الأقارب بالصدقة يحصل بها أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة، ودليل ذلك حديث زينب بنت مسعود الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه".

مهابة النبي صلى الله عليه وسلم :
قال القاري: "(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة) بفتح الميم، أي أعطى الله رسوله هيبة وعظمة يهابه الناس، ويعظمونه، ولذا ما كان أحد يجتريء على الدخول عليه، قال الطيبي: كان: دل على الاستمرار، ومن ثم كان أصحابه في مجلسه كأن على رءوسهم الطير، وذلك عزة منه صلى الله عليه وسلم، لا كبر وسوء خلق، وإن تلك العزة ألبسها الله تعالى إياه صلى الله عليه وسلم، لا من تلقاء نفسه". وقال ابن عثيمين: "وكان النبي صلى الله قد أعطاه الله المهابة العظيمة، وكل من رآه هابه، لكنه من خالطه معاشرة أحبه وزالت عنه الهيبة، لكن أول ما يراه الإنسان يهابه هيبة عظيمة، فإذا خالطه وعاشره أحبه وألفه صلى الله عليه وسلم".
ومن الأحاديث الواردة في مهابة وإجلال النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة لقول زينب رضي الله عنها: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة)، ما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه).
ومع علو منزلته والمهابة التي ألقاها الله تعالى عليه صلى الله عليه وسلم، فقد كان شديد التواضع، فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه: (أن رجلا كلم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد (اللحم المجفف في الشمس)) رواه الحاكم وصححه الألباني. وهذا من تمام تواضعه صلى الله عليه وسلم حيث بين له أنه ليس بملك، وذكر له ما كانت تأكله أمه لبيان أنه رجل منهم، وليس بمتجبر يخاف منه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري، والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح.

التورية، وإخبار بلال النبي صلى الله عليه وسلم باسم المرأتين :
في التورية مندوحة عن الكذب إذا احتيج إلى ذلك، والتورية في الاصطلاح: أن يتكلم المتكلم بكلام له معنى ظاهر متبادر للسامع، وله معنى آخر خفي. ومقصود المتكلم هو هذا المعنى الخفي، إلا أنه وراه وأخفاه بذلك المعنى الظاهر المتبادر، ويلجأ المتكلم عادة لهذا الأسلوب إذا كان لا يريد الإخبار بالحقيقة لسبب ومصلحة ما، ولا يرضى بالوقوع في الكذب. والتورية غير مذمومة من الناحية الشرعية إلا إذا توصل بها إلى إحقاق باطل، أو إبطال حق أو نحو ذلك، لكنها ـ التورية ـ ليست جائزة بإطلاق، فإن كان الإنسان محتاجا إليها فهي جائزة، وإن كان غير محتاج إليها فلا ..
وقد حاول بلال رضي الله عنه في هذا الموقف التورية حتى ينفذ ما طلبته الصحابيتان منه وذلك بقوله: "امرأة من الأنصار وزينب"، والزيانب كثيرات، ولكن فطنة النبي صلى الله عليه وسلم أوقعت بلالا رضي الله عنه في موقف لم يجد مخرجا منه غير الصدق، لأن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولأن بلالا رضي الله عنه ليس أمامه إلا التصريح والصدق، ولا مضرة في إخباره للنبي صلى الله عليه وسلم باسم المرأتين.
قال النووي: "قولهما (ولا تخبر من نحن ثم أخبر بهما) قد يقال إنه إخلاف للوعد وإفشاء للسر، وجوابه: أنه عارض ذلك جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم لا يجوز تأخيره، ولا يقدم عليه غيره وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها". وقال الكرماني في الكواكب الدراري: "فإن قلت: فلم خالف بلال قولهما وهو إخلاف للوعد وإفشاء للسر؟ قلت: عارضه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان جوابه واجب متحتم لا يجوز تأخيره، وإذا تعارضت المصلحتان بدئ بأهمهما. فإن قلت: كان الجواب المطابق للفظ هو أن يقال زينب وفلانة، قلت: الأخرى محذوفة وهي أيضا اسمها زينب الأنصارية وزوجها أبو مسعود الأنصاري، ووقع الاكتفاء باسم من هي أكبر وأعظم منها".
وقال ابن عثيمين: "فدخل بلال على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: إن بالباب امرأتين حاجتهما كذا وكذا، فقال: من هما؟ وحينئذ وقع بلال بين أمرين، بين أمانة ائتمنتاه عليها المرأتان، حيث قالتا: لا تخبره من نحن، ولكن الرسول قال من هما؟ قال: امرأة من الأنصار، وزينب، فقال: أي الزيانب؟ حيث اسم زينب كثير، فقال: امرأة عبد الله، وكان عبد الله بن مسعود خادما للرسول صلى الله عليه وسلم يدخل بيته حتى بلا استئذان، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم أهله وعرف حاله، وهو (بلال) إنما أخبره مع قولهما له لا تخبره، لأن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة مقدمة على طاعة كل أحد".

ومن فوائد هذا الحديث والموقف النبوي مع زينب امرأة عبد الله بن مسعود كما قال النووي: "فيه أمر ولي الأمر رعيته بالصدقة وفعال الخير، ووعظه النساء إذا لم يترتب عليه فتنة"، وقال ابن حجر :"وفيه الحث على صلة الرحم، وجواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها، وفيه عظة النساء، وترغيب ولي الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء، والتحدث مع النساء الأجانب عند أمن الفتنة، والتخويف من المؤاخذة بالذنوب وما يتوقع بسببها من العذاب. وفيه فتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، وطلب الترقي في تحمل العلم".
إن الناظر والمتأمل في سيرة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يرى أنه أعطى المرأة جانبا كبيرا من اهتمامه وأحاديثه ووصاياه، فالمرأة في حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي الأم والإبنة والأخت والزوجة، وكل أمر ونهي في أوامر ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه شامل للرجل والمرأة، وإنما يوجه الخطاب للرجال تغليبا على النساء، وهذا أمر سائغ في اللغة، إلا أن هناك أحكاما ووصايا لا خلاف في اختصاصها بالرجل دون المرأة، وبالمرأة دون الرجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يوجه للنساء خطابا خاصا بهن بعد حديثه للرجال، وربما خصهن بيوم يعلمهن فيه دون الرجال، ومن ذلك وصيته صلى الله عليه وسلم للنساء بقوله: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة