لفظ (وراء) في القرآن الكريم

0 1395

تبحث معاجم اللغة كلمة (وراء) تحت مادة (ورى)، التي تعني الستر والاختفاء. و(الوراء) ظرف من ظروف المكان. ومثله: الخلف. ومقابله: الأمام، والقدام؛ قال الزجاج: "(وراء) يكون لخلف ولقدام، ومعناها ما توارى عنك فاستتر. قال: وليس من الاضداد كما زعم بعض أهل اللغة، وأما (أمام) فلا يكون إلا قدام أبدا". 

وقال الفراء: "لا يجوز أن يقال لرجل وراءك: هو بين يديك، ولا لرجل بين يديك: هو وراءك، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهور. تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك حر شديد؛ لأنك أنت وراءه، فجاز لأنه شيء يأتي، فكأنه إذا لحقك صار من وراءك، وكأنه إذا بلغته كان بين يديك؛ فلذلك جاز الوجهان". 

ولفظ (وراء) بصيغته الظرفية المكانية ورد في القرآن الكريم أربعا وعشرين مرة، من ذلك قوله تعالى: {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} (الإنسان:27)، وورد من أصل هذه المادة الفعل (ورى) بمعنى الستر في ستة مواضع، منها قوله عز وجل: {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} (النحل:59)، وورد هذا الفعل بمعنى قدح النار في موضعين، أحدهما: قوله تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون} (الواقعة:71) أي: النار التي يشعلها الحطب الرطب. ثانيهما: قوله عز وجل: {فالموريات قدحا} (العاديات:2) هي الخيل حين توري النار بحوافرها، وهي سنابكها. 

ولفظ (وراء) جاء في القرآن الكريم على خمسة معان، هي: 

- وراء بمعنى قدام، من ذلك قوله تعالى في قصة الخضر عليه السلام: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} (الكهف:79). قال القرطبي: "الأكثر على أن معنى (وراء) هنا أمام، يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا). وقال ابن عاشور: "ويستعار (الوراء) لحال تعقب شيء شيئا، وحال ملازمة طلب شيء شيئا بحق، وحال الشيء الذي سيأتي قريبا، كل ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء، لا يلبث أن يتصل به". وذهب ابن عطية إلى أن (وراء) هنا على بابها؛ وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان؛ وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو الأمام، والذي يأتي بعده هو الوراء، وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي.

ومن مجيء (وراء) بمعنى (قدام) كذلك قوله عز وجل: {من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد} (إبراهيم:16). قال الطبري: "(وراء) في هذا الموضع، يعني أمام، كما يقال: إن الموت من ورائك، أي: قدامك". وقال النحاس: "أي: من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى، أي: استتر؛ فجهنم توارى ولا تظهر، فصارت من وراء؛ لأنها لا ترى". 

وقس على ذلك قوله تعالى: {ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} (الإنسان:27) أي: أمام الكافرين يوما تشيب لهوله الولدان. وقوله سبحانه: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} (المؤمنون:100) أي: ومن أمامهم حاجز يحجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا.

- وراء بمعنى (الإعراض) عن أمر الله والانصراف عنه، من ذلك قوله تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم} (آل عمران:187) أي: جعلوه خلف ظهورهم. وهذا مثل، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال: قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره، يعني به: أعرض عنه، وصد، وانصرف. والمعنى: أنهم لم يعملوا به، ولم يتدبروا آياته.

ووفق هذا المعنى أيضا قوله تبارك وتعالى: {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا} (هود:92) أي: استخففتم بربكم، فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تأتمرون لأمره، ولا تنتهون لنهيه، ولا تخافون عقابه، ولا تعظمونه حق عظمته. 

- وراء بمعنى (خلف)، من هذا القبيل قوله عز وجل: {وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} (الأنعام:94) أي: خلفكم. ومن أيضا قوله تبارك وتعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} (الأحزاب:53) أي: من خلف ستار. ومن كذلك قوله تبارك وتعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} (الحجرات:4). وهذا غير قليل. 

- وراء بمعنى (سوى)، من ذلك قوله تعالى: {ويكفرون بما وراءه} (البقرة:91) قال الطبري: "تأويل (وراءه) في هذا الموضع (سوى)، كما يقال للرجل المتكلم بالحسن: ما وراء هذا الكلام شيء، يراد به: ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام. فكذلك معنى قوله: {ويكفرون بما وراءه} أي: بما سوى التوراة، وبما بعدها من كتب الله التي أنزلها إلى رسله". 

وبحسب هذا المعنى أيضا قوله عز وجل: {فمن ابتغى وراء ذلك} (المؤمنون:7).) يقول: فمن التمس لفرجه منكحا سوى زوجته، وملك يمينه، فهم المتعدون حدود الله، المجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم. وأيضا جاء وفق هذا المعنى قوله عز وجل: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} (النساء:24) قال الطبري: "أخبرهم جل ثناؤه أنه قد أحل لهم ما عدا هؤلاء المحرمات المبينات في هاتين الآيتين".

- وراء بمعنى (بعد)، جاء على هذا المعنى قوله تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي} (مريم:5) أي: من بعدي، يعني: بعد موتي، قال الطبري: "من بعدي أن يرثوني". ومنه أيضا قوله عز وجل: {والله من ورائهم محيط} (البروج:20) أي: من بعد أعمالهم محيط بهم، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على جميعها. وبحسب هذا المعنى فسر القرطبي قوله عز وجل: {من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد} (إبراهيم:16) قال: "أي: من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعد، قال النابغة

              حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب

أي: بعد الله جل جلاله". 

وحاصل ما تقدم أن لفظ (وراء) أكثر ما جاء في القرآن بمعنى (أمام) أو بمعنى في قابل الأيام. وجاء بدرجة تالية بمعنى (الخلف) الذي هو مقابل (الأمام). وجاء بدرجة أقل بمعنى (سوى) أو (ما عدا)، وبمعنى (بعد)، وبمعنى (الإعراض) عن أمر الله ونبذه.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة