التشجيع طريق التميز

0 1661

للكلمة الطيبة أثر عجيب في النفوس، وكلمة الشكر أو الثناء على من أحسن تحفزه لمزيد من الإحسان؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "...ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه". وقد أمر الله عباده أن يتخيروا من الكلام أحسنه فقال: { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} (الإسراء من الآية53).

وآيات القرآن الكريم حافلة بأنواع من التشجيع على الخير، ومن ذلك:

أن الله تبارك وتعالى حين يوجه أمرا للمؤمنين بفعل شيء أو ترك شيء فإنه غالبا ما يبدأه بهذا النداء الرباني الرقيق الذي يحفز النفوس ويشجعها على الامتثال: {يا أيها الذين آمنوا...) نداء يشعر سامعه بالتقدير وأنه من المتميزين فتشحذ الهمم وتتفجر الطاقات وتحفز النفوس للعمل.

وتأمل قول الملائكة عليهم السلام للصديقة مريم عليها السلام: { يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42)} (آل عمران). وبعد هذا الثناء الذي يحمل بين طياته تحفيزا وتشجيعا على تلقي ما يأتي بعده بالقبول والانصياع يأتي الأمر: { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43)}.

ثم تدبر هذا الوصف الرباني العجيب لبعض المؤمنين: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23)} (الأحزاب). هذه الأوصاف الواردة في الآية تحمل أصحاب الهمم العالية والنفوس الكريمة على التحلي بهذه الصفات الكريمة.

اما السنة فقد حفلت بكلمات ومواقف التشجيع والتحفيز، حين يمدح النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فيقول عن أبي بكر رضي الله عنه: "ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد ، إلا باب أبي بكر".

ويقول عن عمر رضي الله عنه:" إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك".

ويقول عن عثمان: " ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ".

ويقول عن علي: " لأعطين الراية غدا ، أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله ورسوله ، يفتح الله عليه" فيعطيها عليا، ويقول له: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه ليس نبي بعدي".

ويقول لسعد بن أبي وقاص: " ارم فداك أبي وأمي وقال له ارم أيها الغلام الحزور"، والحزور هو الغلام القوي.

ويقول لمعاذ: " والله إني لأحبك...".

ويقول لخالد:" نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله".

ويقول لأبي بن كعب: " إن الله أمرني أن أقرئك القرآن" . قال : آلله سماني لك ؟ قال : " نعم " . قال : وقد ذكرت عند رب العالمين ؟ قال : "نعم " . فذرفت عيناه.

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع! وقالت: إنها في تلك السن، بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير.

وقال رحمه الله:
إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها؛ ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالما من أكابر العلماء، أو أديبا من أعاظم الأدباء! وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة، إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس تحت القبة.
نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك عاميا، ولكنه محب للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس لا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك عن عزمه، فاشترى الكتب يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهرا حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها؛ وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء. وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلا، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في القيمرية وهو على أتان له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوما كما كان يمر، فوجد على الباب أخا للمفتي، فرد عليه السلام، وقال له ساخرا:
- إلى أين يا شيخ، أذاهب أنت إلى (اسطمبول) لتأتي بولاية الإفتاء؟ وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال:
- إن شاء الله!
وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله، وأعطاهم نفقتهم، وسافر!
وما زال يفارق بلدا، ويستقبل بلدا، حتى دخل القسطنطينية فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب، أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيه أنه عربي فيحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنوا الجنة الكبرى بعد ... فكانوا يعظمون العربي، لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناسا ...

واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوما رجل منهم:
- إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها ولم يجدوا لها جوابا، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب؟
قال: نعم.
قال: سر معي إلى المشيخة.
قال: باسم الله.
ودخلوا على ناموس المشيخة (سكرتيرها)، فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة فرفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضي، ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة ثم أخرج من منطقته هذه الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل حتى سود عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب. فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام وقرأها، كاد يقضي دهشة وسرورا. - وقال له: ويحك! من كتب هذا الجواب؟
- قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت ...
- قال: علي به.
فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعا يده على صدره، منحنيا، ثم يمشي متباطئا حتى يقوم بين يديه ... إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ، ولم يحفظ منها شيئا.

ودخل على شيخ الإسلام، فقال له:
- السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه. وعجب الحاضرون من عمله ولكن شيخ الإسلام سر بهذه التحية الإسلامية وأقبل عليه يسأله حتى قال له:
- سلني حاجتك؟
- قال: إفتاء الشام وتدريس القبة.
- قال: هما لك. فاغد علي غدا!
فلما كان من الغد ذهب إليه فأعطاه فرمان التولية وكيسا فيه ألف دينار.

وعاد الشيخ إلى دمشق فركب أتانه ودار حتى مر بدار العماديين فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه كما سخر وقال:
- من أين يا شيخ؟
- فقال الشيخ: من اسطنبول، أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني.
ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، (فرحب به وأكرمه) وسلم الشيخ عمله في حفلة حافلة.أ.ه(بتصرف يسير من كتاب:فكر ومباحث).
إن تاريخ الإنسانية ليشهد أن كلمات التشجيع والثناء صنعت المعجزات، فهذا توماس إديسون صاحب كثير من المخترعات العظيمة في تاريخ البشرية صنعت منه أمه أعظم مخترع في تاريخ أمريكا حين خذله معلموه وزعموا أنه أبله خفيف العقل لا فائدة من تعليمه، وطرد من المدرسة بعد التحاقه بها بثلاثة أشهر بحجة أن المدرسة ليست للمعوقين!! وحين رجع إلى أمه باكيا قالت له: بل أنت صبي ممتاز وستتعلم بسرعة وتولت هي تعليمه ورعيته حتى صار توماس إديسون الذي يشار إليه بالبنان، وكان ينسب ذلك لأمه ويقول:إنها كانت تعني الكثير بالنسبة لي؛ فهي التي جعلتني أستمر في محاولاتي حتى نجحت!!.

يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى:
(إذا ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فإنه ينبغي أن يكرم عليه ويجازى بما يفرح به ويمدح أمام الناس لتشجيعه على الأخلاق الكريمة).
وفي زمن هارون الرشيد رحمه الله كتب إلى عماله على البلاد أن من التزم الأذان فيعطى ألف دينار، ومن جمع القرآن وعمر مجالس العلم وتعلم الأدب يعطى ألفي دينار، ومن جمع القرآن ورى الحديث وتبحر في العلم وناظر العلماء فيعطى أربعة آلاف، فتشجع الطلاب حتى كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، وكان يستبحر في الفقه ويروي الحديث ويجمع الدواوين وهو ابن إحدى عشرة سنة، والسر في ذلك هو التشجيع.

أيها الوالد أيتها الوالدة أيها المعلم أيها القائد أيها المدير والمسؤول إذا لم تكن تحسن التشجيع والثناء فراجع نفسك.
ما أحوج أمتنا اليوم إلى من يشجع الشباب وطلاب العلم في شتى المجالات حتى يكون فيها كفاية من العلماء الربانيين وحفظة القرآن وحملة العلم ومبلغي الدين، والمخترعين والفلكيين والقادة العسكريين وكافة التخصصات التي تحتاجها الأمة.
والحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة