- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:نظائر قرآنية
في القرآن الكريم نقرأ الآيتين الكريمتين: قوله عز وجل: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة:118) وقوله سبحانه: {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} (الممتحنة:5) فقد ختمت هاتان الآيتان بوصفه تعالى بهاتين الصفتين: {العزيز الحكيم} المشيرتين إلى العزة والقهر. والمطرد في الكتاب العزيز أن تذكر (المغفرة) طلبا أو إخبارا، وأن يأتي ما به يقوى رجاء السائل، ويطمع تعلقا به المتذلل الراغب، كقوله تعالى: {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} (المؤمنون:109) فقوله هنا: {وأنت خير الراحمين} توسل مناسب لما تقدم من طلب المغفرة والرحمة. وكذلك قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} (يوسف:92) وقوله عز وجل: {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} (القصص:16) فهذا كله مناسب للطلب، وهو كثير في كتاب الله العزيز، وجار على ما تقدم.
أما وصفه سبحانه بـ (العزة) و(الحكمة) فإنما يرد حيث يراد معنى الاقتدار والاستيلاء والقهر وإحاطة العلم، وإفراده سبحانه بالخلق والأمر والربوبية والتعالي وما يرجع إلى هذا، كقوله تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم} (آل عمران:62) وقوله سبحانه: {هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} ثم قال: {وهو العزيز الحكيم} (الروم:27) وقوله تعالى: {ولله جنود السماوات والأرض} ثم قال: {وكان الله عزيزا حكيما} (الفتح:7) وقوله عز وجل: {سبح لله ما في السماوات والأرض} ثم قال: {وهو العزيز الحكيم} (الحديد:1) وهذا كثير مطرد، حيث يراد معنى القهر والإحاطة والاقتدار.
والسؤال الذي قد يرد هنا: لماذا ختمت آيتا المائدة والممتحنة بقوله تعالى: {العزيز الحكيم} على خلاف ما هو مطرد في القرآن من التعقيب بقوله سبحانه {الغفور الرحيم}؟
أجاب ابن الزبير الغرناطي على هذا السؤال بما حاصله: أن آية المائدة مبنية على التسليم لله سبحانه، وأنه المالك للكل، يفعل فيهم ما يشاء، فلو ورد هنا عقب آية المائدة: (وإن تغفر لهم فأنت الغفور الرحيم) لكان تعريضا بطلب (المغفرة)، ولم يقصد ذلك بالآية، وإنما قيل ذلك على لسان عيسى عليه السلام تبريا وتسليما لله سبحانه، وليس موضع طلب (مغفرة) لهم، وإنما هو تنصل من حالهم، وتسليم لله فيهم، قال القرطبي: "إنما قال: {فإنك أنت العزيز الحكيم} على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره، والتفويض لحكمه. ولو قال: (فإنك أنت الغفور الرحيم) لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه، وذلك مستحيل، فالتقدير: إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم {فإنك أنت العزيز} الذي لا يمتنع عليك ما تريده، {الحكيم} فيما تفعله، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء".
وقريب مما ذكره القرطبي ما ذكره بعض المفسرين من "أنه لو قال: (فإنك أنت الغفور الرحيم) لأشعر ذلك بكونه شفيعا لهم، فلما قال: {فإنك أنت العزيز الحكيم} دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه.
أما قوله عز وجل في سورة الممتحنة: {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} فالجواب عنه: أن قوله: {إنك أنت العزيز الحكيم} مبني على قوله: {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} فإن المراد لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على الحق، فيكون سبب فتنتهم، فلا تفعل ذلك بنا، فأنت القادر على كفهم عنا، ونصرنا عليهم، فإنك {العزيز} الذى لا معارض لما تريده، ولا ممانع لما تشاؤه؛ ولما كان المؤمنون يعلمون أن ما يصيبهم من مصيبة إنما هي بما كسبت أيديهم، سألوا المغفرة مما اجترحته أيديهم، وأورد سؤالهم مورد جمل الاعتراض، فقدم قوله: {واغفر لنا ربنا} فإن الكلام فيه تقديم وتأخير: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا إنك أنت العزيز الحكيم واغفر لنا ربنا) فقدم قوله: {واغفر لنا ربنا} أثناء الكلام؛ إحرازا لآدابهم ومعتقدهم الإيماني.
وقد ارتأى ابن عاشور أن ذكر {العزيز} في آية المائدة إنما جاء به كناية عن كونه يغفر عن مقدرة. وأن ذكر {الحكيم} إنما جاء به لمناسبته لتفويض الأمر له سبحانه، فهو سبحانه المحكم للأمور، العالم بما يليق بهم.
وارتأى أيضا أن آية الممتحنة قد ختمت بـ {العزيز الحكيم} تعليلا للدعوات كلها المتقدمة {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا} (الممتحنة:4-5)؛ فإن (التوكل) و(الإنابة) و(المصير) تناسبه صفة {العزيز} إذ مثله يعامل بمثل ذلك، وطلب أن لا يجعلهم (فتنة) باختلاف معانيه يناسبه صفة {الحكيم}، وكذلك طلب (المغفرة) لأنهم لما ابتهلوا إليه أن لا يجعلهم فتنة الكافرين، وأن يغفر لهم، رأوا أن حكمته تناسبها إجابة دعائهم؛ لما فيه من صلاحهم، وقد جاؤوا سائلينه.
وقد نقل الرازي عن شيخه ووالده أن ختم الآية هنا بقوله سبحانه: {العزيز الحكيم} أولى من {الغفور الرحيم}؛ لأن كونه {غفورا رحيما} يشبه الحالة الموجبة لـ (المغفرة) و(الرحمة) لكل محتاج، وأما (العزة) و(الحكمة) فهما لا يوجبان (المغفرة)، فإن كونه {عزيزا} يقتضي أنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه لا اعتراض عليه لأحد؛ فإذا كان {عزيزا} متعاليا عن جميع جهات الاستحقاق، ثم حكم بـ (المغفرة) كان الكرم ها هنا أتم مما إذا كان كونه {غفورا رحيما} يوجب (المغفرة) و(الرحمة).
وقد طعن على القرآن من قال إن قوله عز من قائل: {فإنك أنت العزيز الحكيم} ليس بمناسب لقوله: {وإن تغفر لهم} لأن الذي يناسب المغفرة (فإنك أنت الغفور الرحيم).
وقد أجاب القرطبي على هذا القائل بقوله: "إنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله، ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه؛ فإنه ينفرد {الغفور الرحيم} بالشرط الثاني {وإن تغفر لهم}، فلا يكون له بالشرط الأول {إن تعذبهم فإنهم عبادك} تعلق، وهو على ما أنزله الله عز وجل، واجتمع على قراءته المسلمون، مقرون بالشرطين كليهما، أولهما وآخرهما؛ إذ تلخيصه: إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكان {العزيز الحكيم} أليق بهذا المكان؛ لعمومه؛ فإنه يجمع الشرطين، ولم يصلح {الغفور الرحيم} إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله {العزيز الحكيم} وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها، والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض".
وبما تقدم يتبين حال المناسبة في آية المائدة وآية الممتحنة بين الآيتين وبين ما أعقبتا به، وأنه لا يناسب على ما تقرر سواه.
هذا، وقد نحى بعض المفسرين منحى آخر في توجيه آية المائدة، ذاهبا إلى أن جواب قوله تعالى: {وإن تغفر لهم} محذوف، أي: وإن تغفر لهم، فإنهم عبادك، ثم عطف عليه قوله: {فإنك أنت العزيز الحكيم} وأن المناسبة إنما تحصل بهذا التقدير.
وقد رد ابن الزبير الغرناطي هذا التوجيه من وجهين:
الأول: أن سياق الكلام ليس واردا مورد الاستلطاف، وليس فيه ما يدل على طلب المغفرة والرحمة، وإنما سياقها تسليم الأمر له سبحانه، يفعل بهم وفق ما تقتضيه حكمته وعدله.
الثاني: أن العرب لا تتكلم بهذا؛ فلا تأتى بكلام قد انجزم فيه الفعل بأداة الشرط، ثم لا تأتي بجواب مجزوم في اللفظ، وقد قال سيبويه: "وقبح في الكلام أن تعمل (أن) أو شيء من حروف الجزاء في الفعل حتى تجزمه في اللفظ، ثم لا يكون له جواب، فينجزم بما قبله، ألا ترى أنك تقول: آتيك إن أتيتني، ولا تقول: آتيك إن تأتيني؛ لأنك أخرت (إن) وما عملت فيه، فلم تجعل لها جوابا ينجزم بما قبله، فهكذا جرى هذا في كلامهم".