ولكنكم تستعجلون

0 1132

(في أحب البقاع إلى الله، مكة المكرمة، ومنذ ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يصدع بما يؤمر، من يومها كان الإسلام يخوض معركته الأزلية الأبدية مع الكفر، المعركة التي تمتد جذورها إلى قصة خلق آدم -عليه السلام-، وتستمر فصولها إلى اللقاء الحاسم بين المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام- والمسيح الدجال.
منذ بزغ نور هذه الرسالة كان الرعيل الأول من المؤمنين يلاقي ألوان الظلم والاضطهاد في سبيل الله، وكان القرآن يهيئوهم لهذا الابتلاء العظيم: {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}[العنكبوت: 1-6].

ولقي المؤمنون في الطريق ما لقوا، رجالا ونساء، اعترضتهم الصعاب، ولكنهم لم يتراجعوا أبدا، كان الجمر يطفأ في ظهورهم، والصخر الحار يسحب على صدورهم، حبسوا وجوعوا، وأهينوا وضربوا، وأخذت أموالهم، وأخرجوا من ديارهم، لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكرم الخلق على الله ما لقي من الأذى، طلقت بناته، واستهزئ به، وأوذي في الله وما يؤذى أحد، وأخيف في الله وما يخاف أحد.
في تلك الأجواء المشحونة بالظلم أقبل خباب بن الأرت، وهو الرجل الذي كان يكوى رأسه بالحديد المحمى، وتوقد تحته النار فما يطفئها إلا الدهن الذي يذوب من ظهره، أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، يشكو إليه هو وأصحابه، ويقولون: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فجلس محمرا وجهه، فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"[رواه البخاري].
كان يمر على آل ياسر وهم يعذبون، فلا يملك إلا أن يقول لهم: "صبرا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة".

واضطر المستضعفون إلى ترك مكة، خرجوا يهيمون على وجوههم قبل أرض لم يعرفوها ولم يألفوها، تسللوا خفية، يكتنفهم ظلام الليل، وموج البحر، ويقلقهم هاجس قريش في آثارهم، وهناك ما إن بلغهم أن قريشا لانت شيئا ما، حتى عاد القوم أدراجهم إلى مكة، دخلوها أخوف منهم حين غادروها، وتبين لهم أن قريشا لم تزدد إلا شراسة وطغيانا، فانضم إليهم غيرهم، وخرجوا إلى الحبشة مرة ثانية، فارين بدينهم.
وفي مكة يستمر مسلسل الكيد والظلم، ويفرض الحصار الظالم على بني هاشم وبني عبد المطلب، حتى يسلموا محمدا للقتل؛ كتب الميثاق في مكة، وعلق في جوف الكعبة.
حوصر بنو هاشم وبنو عبد المطلب مؤمنهم وكافرهم في شعب أبي طالب ثلاثة أعوام، حتى أكلوا الأوراق والجلود، وكانت تسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، مؤمنهم وكافرهم، أي ضغط نفسي يعانيه وهو يرى قرابته يعذبون بسببه؟! إن كان أتباعه اختاروا الطريق ورضوا الجنة ثمنا فما بال المشركين من قرابته حبسوا معه وأبوا أن يتخلوا عنه؟!.
ألوان من الأذى، صور من البلاء، في تلك الأجواء يتنزل القرآن على قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيتلوه على من معه: {ودوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9].
إنهم يتمنون أن تتنازل قليلا، أن تتراجع ولو شيئا يسيرا، أن تقبل أنصاف الحلول: {ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين}[القلم: 9-10].
أليس هو المستضعف؟! أليس المؤمنون هم المضطهدين؟! أليس الذي ينزف دماءهم؟! ألم يطل الأذى أطفالهم ونساءهم؟!
بلى، ولكن المسألة ليست موازنات مادية، ولا صراعا دنيويا، إنها في حسابهم أثمان مهما غلت، فهي رخيصة جدا في مقابل السلعة التي اشتروها، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة:111].
كل شيء محسوب، كل تضحية مضمونة، كل جرح حتى الشوكة يشاكها، كل ذلك محفوظ، وعند الله في ذاك الجزاء.

كان القرآن يتنزل مثبتا مؤيدا، يملأ القلوب يقينا وإيمانا، فيعطيها القوة التي تهزأ ببطش الجبارين، وتستخف بتهديد الظالمين، كان بلال وهو يعذب يقول: "أحد أحد".
ويقول: "لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها".
يكررها، فإذا هي عليهم أشد من عذابهم عليه، وتكون العاقبة بعد ذلك لبلال الذي سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- دف نعليه -حركة مشيه خطواته- بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة.
كان القرآن يقص عليهم القصص؛ ليربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم، قص عليهم فيما قص قصة أصحاب الأخدود، قصة الفئة التي آمنت بالله رب الغلام، فحفر لها الطغاة أخدودا عظيما، وأوقدوا فيه نارا عظيمة، حتى صار الأخدود كله نارا، ثم أوقفوا المؤمنين المستضعفين الأبرياء العزل، أوقفوهم على شفيرها، وخيروهم بين الكفر وبين النار ذات الوقود، فاختار المؤمنون الثبات على الإيمان والصبر والاحتساب، وآثروا الباقية على التي تفنى، فتهاوت أجسادهم إلى النار، وصعدت أرواحهم إلى جوار الرحيم الكريم.
كان من بين تلك الفئة المؤمنة امرأة تحمل طفلا رضيعا، طفلا لم يخرج إلى الحياة إلا منذ أشهر قليلة، لم يسعفه الوقت ليرى من الدنيا شيئا قبل أن يرى ذلك الأخدود الملتهب، وتلفح حرارته وجهه الغض الطري، نظرت الأم إلى طفلها الذي ستذوب عظامه بين يديها، فتلكأت وتراجعت، وهي تتخيل هذه البراءة تحترق في أتون الظلم، كانت النار التي في جوفها أشد من النار التي تملأ الأخدود أمام عينيها، في تلك اللحظة أنزل الله السكينة على قلبها، ترك طفلها ثديها، ونظر إليها وقال: "يا أماه، اصبري فإنك على الحق"[رواه مسلم].
وقتل المؤمنون جميعا، فنيت أمة مؤمنة بأكملها، أمة كانت هدايتها على يد الغلام الذي اختار أن يموت ليحيا بموته الناس، فآمن الناس بالله رب الغلام، وتعلموا من موته الثبات على الحق، فثبتوا، فقتلوا جميعا، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، محاهم الظلم بين عشية وضحاها، فماذا سمى الله موقفهم؟! وبماذا وصفه؟!
لقد سماه الله -جل في علاه- فوزا، ووصفه بما لم يصف به أي فوز آخر في القرآن: (ذلك الفوز الكبير) [البروج: 11].
وليس في كتاب الله فوز وصف بالكبير إلا فوز تلك الفئة المؤمنة التي أحرقت في الأخدود، إنه الفوز الكبير، أكبر من حدود الدنيا، أوسع من آفاقها، أبعد من آمادها، أعظم من كل نعيمها، أجل من كل زينتها: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} [البروج: 11].

هكذا توزن التضحيات، وهكذا تقاس المواقف، هكذا ينظر المؤمنون إلى البلاء إذا ابتلوا.
إن دماء إخواننا المؤمنين غالية، أغلى من النفط الذي يعمي البصائر ، وأنفاسهم ثمينة أثمن من الغاز الذي يخنق الضمائر، ولكنها لن تذهب عند الله هدرا أبدا: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور} [الحـج: 38].
أيها المؤمنون: لما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يريدون قافلة قريش كان الله من فوق سبع سماوات يريد شيئا آخر، يريد مغنما أعظم، يريد نصرا أكبر.
خرج المؤمنون في آثار القافلة، فأفلتت منهم، ولكن قريشا لم ترجع مع الخبر أدراجها، بل أصرت أن تقيم ببدر ثلاثة أيام حتى يتسامع بها العرب فيهابوها.

وأراد الله أن تكون بدر مسرحا للنصر العظيم: {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم} [الأنفال: 42].

التقى الجيشان، والقوة المادية تثقل ميزان قريش، كانوا أكثر عدة وعتادا، وكان المؤمنون إنما خرجوا يريدون القافلة، لم يتهيؤوا للقتال، ولم يعدوا له العدة، ولكنهم أجمعوا أمرهم، واختاروا ما اختاره الله لهم، فقال قائلهم: "والذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل، فصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت، فقال: "سيروا على بركة الله، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".

ولما التقى الجمعان صف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفوف، ثم رجع إلى العريش ومعه أبو بكر، ووقف يناشد ربه يقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض أبدا".

يرفع يديه ويلح على الله، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرد أبو بكر الرداء، وقال: "يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك".

وما إن أرخى يديه حتى تلاحقت المبشرات، رأى مصارع القوم، وبشر بالنصر، أنزل السكينة على قلوب المؤمنين حتى خفقت رؤوسهم من شدة النعاس، وأوحى إلى الملائكة فثبتتهم، وحملت السلاح تقاتل معهم، وأنجز الله وعده، ونصر عبده، وجعلها ذكرى لمن كان له قلب: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} [آل عمران: 123].
كنتم أذلة ضعفاء، أقل عددا، وأخف عددا، ولكن الله ثبتكم وأيدكم ونصركم.
أيها المؤمنون: تاريخ البشرية كله شاهد أنه لم تكن قط مقاومة أقوى من المعتدي، أو حتى في مثل قوته، ومع ذلك كانت الإرادة تملأ قلوب المضطهدين، وتشحذ عزائمهم، فينتصرون على الظلم والطغيان في كل حروب الاستقلال؛ في فيتنام والهند وجنوب أفريقيا، الكل صمد حتى انتصر.
أولئك .. بذلوا التضحيات العظيمة، ثمنا للنصر والتمكين، كانوا يتقدمون إلى مصارعهم لأجل النصر فقط،  يقتل من يقتل منهم ليحيا من وراءه.
أما المؤمنون، فهم بين إحدى الحسنيين: إما النصر أو الشهادة.
نصف الأنصار قتلوا بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسماهم الله أنصارا.
التاريخ الحديث يحتفل ببطولات القلة الصامدة في وجه الاحتلال، مصر تتغنى ببطولات المصريين الذين واجهوا الاستعمار بالسيوف والسكاكين.
سوريا تفاخر بمعارك الأبطال مع فرنسا.
الجزائر تتباهى بالمليون شهيد.
والتاريخ الليبي يتوج بالوفاء بطولات عمر المختار الذي واجه طائرات إيطاليا بخيل وبندقية.
طريق لا يعرف التاريخ غيره، لم يحفظ لنا حادثة واحدة رفع فيها الظلم بالمفاوضات، لم يسجل لنا ولا خبرا شاذا عن محتل خرج بدون قتال وتضحيات، الأمم كلها تفاخر بالمقاومين الذين يصنعون لها النصر، تباهي ببطولاتهم، تحتفل بانتصاراتهم، إلا أن معركة التطبيع الخفية، وأذيال الخيانة القذرة، ملأت رؤوسنا بالأوهام، جعلتنا نصفق للاستسلام، صدق الناس: أن الضعف سياسة! وأن الهزيمة واقعية! وأن الجهاد في سبيل الله إرهاب! وأن المقاومة تهور!.
وجدت أكاذيب العدو في الصف رواجا *** وملأت ألاعيبه العيون قتاما).

تعقيب :إن الاستعجال آفة عظيمة قد ينتج عنها إما تهور غير محسوب العواقب، يجلب على صاحبه وعلى قضيته المصاعب والتشويه، وإما أن يؤدي إلى نوع من اليأس المذموم الذي نهى الله تبارك وتعالى عنه: { ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)} ( سورة يوسف).
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يعز الإسلام والمسلمين.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(من خطبة للشيخ ياسر بن محمد بابطين - ملتقى الخطباء).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة