- اسم الكاتب:خطبة للشيخ د.إبراهيم بن صالح العجلان
- التصنيف:أحوال القلوب
نقطع حجب الزمان، ونطوي صفحات التاريخ لنقترب من مشهد فريد، وصورة معبرة، وموقف فيه الصلاح لمن أراد الفوز والفلاح.
هناك في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يجلس خير الخلق بين أصحابه في مجلس إيماني بهيج، قد اشرأبت نحوه الأعناق، وأحدقت إليه الأبصار، وملكت كلماته العذبة قلوب أصحابه - رضي الله عنهم - وبينما هم على هذه الحال من السكينة والطمأنينة، يشير - صلى الله عليه وسلم - إلى ناحية من نواحي المسجد فيقول: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة"، فتشخص الأبصار إلى ذاك المكان المشار إليه، وتتلهف النفوس لمعرفة من هو هذا الرجل المبشر بأعظم بشارة سمعتها الآذان، من هو هذا الرجل المبشر بروح وريحان، ورب راض غير غضبان.
لعله قد دار في نفوس الصحابة أن يكون هذا الرجل من أهل سابقة الإسلام، أو من أهل بدر وبيعة الرضوان، أو ممن قدم عملا جليلا للإسلام يذكر فيشكر.
فلم يفجأهم إلا رجل يخرج إليهم، تقطر لحيته من أثر الوضوء، وإذا هو رجل من عامة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعرفه إلا القليل ، وما يضيره ألا يعرفه إلا القليل ، إذا كان رب العالمين قد عرفه ورضي عنه وأدخله جنته؟!
وتغيب شمس ذلك اليوم لتشرق مع صباح الغد القريب، ويعيد النبي -صلى الله عليه وسلم- قولته بالأمس: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة"، وإذا بالرجل ذاته يخرج لهم تقطر لحيته من أثر الوضوء، ويأتي اليوم الثالث وتأتي معه البشارة النبوية: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة"، فيطلع ذلك الرجل نفسه على هيئته السابقة!
لا تسل عما دار في نفوس الصحابة من معاني الغبطة والإكبار لذلك الرجل الذي يمشي في دنيا الناس اليوم، والجنة مثواه غدا، ليس المهم من هو ذلكم الرجل، ولكن الأهم: لماذا بشر؟ وما عمله الذي بلغه رضا ربه عليه؟
إن رجلا مغمورا هذا مآله لحري أن يقتص خبره، ثم يقتفى أثره، فانتدب لهذه المهمة عبدالله بن عمرو بن العاص، وطلب من الرجل أن يؤويه ففعل، فقال الرجل: نعم، فبات عنده عبدالله ثلاث ليالي، فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار من الليل وتقلب على فراشه ذكر الله - عز وجل – وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر.
قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت تلك الليالي الثلاث، وكدت أن أحتقر عمله، قلت له: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة"، فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن أبيت عندك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، فلما انصرف عبدالله، ناداه الرجل فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه، فانصرف عبدالله وهو يقول: "هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق".
إنها سلامة القلب وطهارته، تلك العبادة الخفية، اليسير نطقها، العسير تطبيقها.
فما أحوجنا - عباد الله - أن نتواصى بهذه العبادة، في زمن عمت فيه الشبهات، وطمت فيه الشهوات التي تمرض القلب وتضعفه، وتصده عن سبيل الله، ناهيكم عن التنافس على أمور الدنيا، حتى حلت الضغائن، وساءت العلاقات، وظهر التهاجر والتدابر، والله المستعان!
إخوة الإيمان:
سلامة القلب وطهارته هي أعظم عمل، وأجل طاعة يلقى بها العبد ربه تعالى: "إن الله لا ينظر إلى صوركم أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم".
سلامة القلوب من عللها وأسقامها هي بلسم للأرواح، وراحة للأجسام؛ ولذا ترى سليم القلب من أهنأ الناس عيشا، وأطيبهم معشرا.
سليم القلب تنام عينه ملء جفونها، هادئ البال، مطمئن المضطجع؛ لأنه يحمل بين جنبيه مضغة بيضاء، لا تحمل حقدا ولا حسدا، ولا تكبرا ولا غرورا، بل يحمل قلبا طاهرا طهارة الماء العذب الزلال، نقيا كنقاء الثلج والبرد، مشرقا بنور المحبة والمسامحة، ساطعا بضياء السلامة وحب الخير للغير.
ولا تزال سلامة القلب بالعبد، حتى يوسم شرف الخيرية بين الناس، يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس خير؟ فقال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا: يا رسول الله، صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد" (رواه ابن ماجه بسند صحيح).
سليم القلب، رجل عرف ربه من أسرع الطرق إليه، فإذا هو رجل يتعبد الله بصلاح قلبه وتصفية فؤاده، أشد من معاهدته في نوافل العبادات؛ ولذا سبق الصديق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بكثرة الإنفاق، ولا بطول القيام، ولا بدوام الصيام، وإنما سبقهم بشيء وقر في قلبه، وهو الإيمان.
إخوة الإيمان:
إن إصلاح الظاهر، بالاستمساك بالسنن والقيام بالواجبات، وإغفال الباطن وإهماله - هو في الحقيقة تدين منقوص.
التدين الصادق يتمثل في المظهر والمخبر، التدين الحق يبدأ حين يبدأ من إصلاح الباطن واستقامة القلب؛ لأن القلب إذا استقام استقامت الجوارح، فلا لغو يرسله اللسان، ولا خيانة يطلقها الطرف، ولا إثم تتحسسه الأذن.
وصدق الصادق المصدوق: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب".
فما حالنا - عباد الله - مع ملك الأعضاء وسيد الجوارح؟ لنفتح صفحة مصارحة، وليسائل كل واحد منا نفسه عن خبايا قلبه، وما يكنه ضميره ، هل تفقد كل واحد منا باطنه، فرأى بمنظار بصيرته أدواء جاثمة في قيعان قلبه؟
من منا وقف مع نفسه مذعورا ؛ لأنه استشعر داء العجب والكبر يدب في قلبه ؟!
من منا صارح نفسه في لحظة محاسبة وخلوة عن عقرب الحسد الذي يتحرك بين جوانحه؟!
هل تفقدنا القلوب من شهوة الرياء وحب الظهور؟ وهل تفقدنا الصدور من خطرات الاستعلاء ووساوس الغرور؟!
لا تلتفت - يا عبد الله - يمينا وشمالا، وتظن أن هذه أدواء قد بلي بها غيرك، وعوفيت منها، فالجميع يعاني قدرا من هذه الأمراض، وتمر به أشياء من هذه الأسقام، قل ذلك أم كثر، وإنما السعيد من استدفعها، والشقي من أهملها، وتركها تجثم وتغور جذورها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يخفيه، واللئيم يبديه".
معاشر المسلمين:
إن خطايا القلوب آثام موجعة، ينبغي أن نحترس منها أشد من احترازنا من معاصي الجوارح؛ فهي أشد فتكا وأعظم أثرا، خطايا القلوب لا يستشعر كثير من الناس أنها تذهب فضل الصيام، وثواب القيام، وتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، واستمع معي - أخي المبارك - إلى هذه النذر المحمدية، واستجمعها بقلب يقظ، وعقل واع؛ لعلها تحول بيننا وبين آثام الصدور.
يقول - عليه الصلاة والسلام -: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"؛ متفق عليه، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: " ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" (رواه الإمام أحمد والترمذي).
إخوة الإيمان:
ويعظم خطر معاصي القلوب أنها قد تأتي في غير صورتها الواضحة، فلا يستشعر حينها العاصي أنه يتقلب في فساد باطني، فالفرح بأخطاء الآخرين والسير بها في الآفاق للتشفي منهم مرض قلبي، ينم عن حسد أو بغض جاثم في القلب.
تنقص الآخرين، وتقزيم آرائهم، وتقليم جهودهم، عيب يورث العجب والتعالي، ليقول صاحبه بلسان الحال: أنا خير من أولئك.
قد يأتي الكبر في صورة الاحتقار، احتقار الغير لنسبه أو فاقته، أو لونه أو منطقته، وتلك خطرات لا يوفق لاستدفاعها إلا من وفقه الله تعالى، وعمر قلبه بنور الإيمان والتقوى، وأدام محاسبة نفسه، وقومها بميزان القرآن، فصاحب القلب المريض لا يرى الأشياء على حقيقتها؛ لأن العبرة ليست بنواظر العيون، وإنما ببصائر القلوب، ومن مأثور حكم الشعر:
لعمرك ما الأبصار تنفع أهلها *** إذا لم يكن للمبصرين بصائر
وأصدق منه قول المولى - تعالى -: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179].
ويبقى السؤال الأهم: كيف السبيل إلى صلاح القلوب، وسلامة الصدور؟ كيف نبلغ هذه المرتبة الشريفة المنيفة؟
أيها المؤمنون، إن لصلاح البواطن وسلامة المخابر أسبابا عدة، من أهمها:
البعد عن المعاصي والمحرمات الحسية والمعنوية
فأمراض القلوب ما تنمو إلا في نفس خربة، عشعشت فيها الذنوب وتكاثرت، ولم تمح وتغسل بماء التوبة والاستغفار.
يقول الله - سبحانه - رابطا بين زكاة الباطن، وبين النهي عن عدد من الذنوب: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [النور: 30]، ويقول سبحانه: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا} [النور: 21]، قال - سبحانه - ذلك بعد تحريم الزنا والقذف، فدل على أن زكاة القلوب هو باجتناب هذه المعاصي.
إخوة الإيمان:
ومن أنفع أسباب صلاح السرائر: إخلاص الأعمال لله –تعالى-، وأن تكون للعبد خبايا من الأعمال الصالحات، لا يراها إلا ربه، جاء في الحديث الصحيح الذي خرجه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ".
وبعد أن يخلص المرء أعماله لربه، يأتي أهم سبب لصلاح القلوب واستقامتها، وهو القرآن، هذا الذكر الحكيم الذي قصرنا في تدبره، وإصلاح النفس من مواعظه وعبره؛ {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} [يونس: 57]، هذا الذكر الحكيم، إذا واطأ القلب فيه اللسان، وصل بالعبد إلى آفاق علوية، تسمو به فوق خطرات النفس الدنيئة، وعلل القلب الوضيعة؛ {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44]، وهو أفضل الذكر، وما ذكر الله تعالى بمثل تلاوة كلامه، {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28].
ومن أسباب صلاح الباطن - عباد الله -: صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ روى النسائي في سننه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر، صوم ثلاثة أيام من كل شهر" وصححه الألباني.
ووحر الصدر: هو الحقد والغيظ، وقيل: العداوة، وقيل: أشد الغضب.
الصدقة من أسباب صلاح الباطن؛ {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}[التوبة:103].
ومن أسباب سلامة الباطن - والأسباب كثيرة -: إحسان الظن بالمسلمين، وإعذار المخطئين، والهدية تسل السخيمة، والكلمة الطيبة، وإفشاء السلام من أسباب زرع بذور المحبة وبتر أورام الأحقاد بين الناس.
وأخيرا يا عبد الله:
لن تصل إلى ما ترنو إليه من صلاح باطنك، إلا بعون من الله - جل جلاله - فاجأر إلى ربك بالدعاء أن يصلح قلبك وينقي سريرتك من أمراض الشبهات والشهوات، فقد كان من دعاء نبينا -صلى الله عليه وسلم- ربه: "واسلل سخيمة قلبي"، ودعا الصالحون من عباد الله فقالوا: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} [الحشر: 10].