الإمام الكسائي.. عالم القراءات والنحو

0 1468

أتجالسنا وأنت تلحن؟ إن كنت أردت التعب فقل أعييت، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل عييت؛ مخففة " [تاريخ بغداد].

هذه الكلمات كان لها أثر عجيب على صاحب اليوم؛ فقد قسمت حياته قسمين؛ فما قبلها قسم، وما بعدها قسم؛ وكان القسم الثاني منهما أوفر حظا وأغزر علما؛ وأوثق في أمهات الكتب خطى.

أجل تلقى صاحبنا هذه الكلمات على كبر عندما جاء الهباريين يوما؛ وهم أهل فصاحة، وقد مشى حتى أعيى؛ فقال: قد عييت، بتشديد الياء الأولى؛ فصفعه القوم بمقولتهم السابقة؛ فلم يجد مخرجا إلا أن يسأل ويسمع منهم سبب اللحن، وطريق النطق الفصيح لمثل ذلك التركيب؛ على أنفة منه ومضاضة وجدها في نفسه؛ شكلت دافعا قويا لتعلم الفصيح من الكلام، وإصلاح عجمة اللسان؛ إذ قام من فوره سائلا عن معلم للنحو؛ فدل على معاذ الهراء فتبعه حتى أنفد ما عنده.
أيها القارئ الكريم؛ موعدنا اليوم مع واحد من أهل القراءات والنحو؛ إنه علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز، الأسدي المعروف بالكسائي النحوي أحد أئمة القراء من أهل الكوفة[الإعلام للزركلي:4/283].

ما أعظم صنيع كلمات الهباريين؛ إذ حصدت للعربية رجلا من روادها؛ وأيقظت داخله نهم العلم، فهو يغرف منه غير شبع؛ فما إن اطمأن إلى أنه قد أنهى ما عند معاذ الهراء حتى خرج إلى البصرة؛ ليلقى إمامها الخليل، ويجلس في حلقته؛ ينصت إليه؛ ويحفظ ما قال؛ وبينا هو كذلك إذ استعتبه رجل قائلا: "تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة وجئت إلى البصرة، فقال للخليل: من أين أخذت علمك هذا؟ فقال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة؛ فخرج ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ.

رجع صاحبنا إلى البصرة ثانية يقصد الخليل، لكن البصرة قد تغير حالها، كما أن صاحبنا قد تغير حاله فضمن فؤاده ما سمع من الأعراب أهل الفصاحة حتى امتلأت ذاكرته، وامتلأت كذلك رقاعه التي دون عليها، ونفدت أحباره في تدوين ما سمعه.

نعم؛ تغير حال البصرة بموت الخليل بن أحمد؛ وما أدراك ما الخليل بن أحمد؟ رأس اللغة والنحو في عصره، وأستاذ أساتذة المدرستين الكبيرتين الكوفة والبصرة.

مات الخليل، ولم يمت علم الخليل، ولم تنته حلقة درسه؛ إذ ارتقاها يونس بن حبيب البصري؛ ليبلغ العلم كما كان يبلغه الخليل.
وجاء صاحبنا يسأل عن الخليل فأخبر بموته؛ فجلس يستمع ليونس بن حبيب، لكنه هذه المرة لم يكن مجرد طالب علم؛ فهو رجل قد ضم بين جنبيه علم معاذ الهراء، ونقحه بما أخذ عن الخليل، ثم إنه قد عاشر أعراب البادية؛ فأصلح عجمة لسانه، وعرف طبائع الفصحاء في الكلام، وحفظ عنهم ما حفظ، ودون عنهم ما دون.

وقف صاحبنا موقف النظير من يونس بن حبيب، ودارت بينهما مسائل ومناظرات أقر له يونس فيها، وصدره موضعه [تاريخ بغداد:13/347].

الكسائي:
الكسائي؛ بياء النسب، قيل: نسبة إلى كساء أحرم فيه، وقيل: نسبة إلى كساء التف به في مسجد كان يقرأ فيه حمزة الزيات؛ أحد علماء القراءات، وقيل غير ذلك، ولكنه في النهاية لقب كتب له أن يكون علما على رجل أخلص لطلب العلم، فامتد ذكره بالعلم بعد موته.

قدر لصاحبنا أن يشيع أمره، وينتشر علمه، فهيئت له الأسباب؛ فها هو ذا الخليفة المهدي أبو هارون الرشيد يأتي بمؤدب لهارون، ليعلمه، فدعاه يوما المهدي وهو يستاك؛ فقال: كيف تأمر من السواك؟ فقال: استك يا أمير المؤمنين فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: التمسوا لنا من هو أفهم من ذا؛ فقالوا: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة، قدم من البادية قريبا فكتب بإزعاجه من الكوفة، فساعة دخل عليه قال: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت وأصبت وأمر له بعشرة آلاف درهم.

يا للأقدار!! صار الكسائي مؤدبا لابن الخليفة، ثم صار مؤدبا للخليفة؛ هارون الرشيد، ومؤدبا لابنيه – بعد ذلك – الأمين والمأمون.

ما أغرب أثر تقلب الجديدين! فمن كان بالأمس القريب يوجه من الهباريين للفصاحة أصبح اليوم معلما للفصاحة، من كان منطقه بالأمس متهما باللحن والخطأ؛ صار اليوم حجة على الفصيح والغريب والجائز والواجب والممتنع، وهذا هو صنيع العلم بأهله.

وازدادت مكانة صاحبنا بعد موت الخليفة المهدي، وتولي هارون الرشيد الخلافة؛ فهارون تلميذه، والكسائي -لا شك - ذو حظوة عند الرشيد معلومة الأسباب.
وقد كان بعض العلماء يغبط الكسائي على هذه المكانة التي كان يحظى بها عند الخليفة؛ فيروى أن القاضي أبا يوسف – رحمه الله – كان يقع في الكسائي ويقول: إنما يحسن شيئا من كلام العرب؛ فبلغ الكسائي ذلك؛ فالتقيا عند الرشيد فسأله الكسائي: ماذا تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق أو طالق أو طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق؟ قال: واحدة؛ قال: فإن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق؟ قال: واحدة؛ قال الكسائي: يا أمير المؤمنين؛ أخطأ يعقوب في اثنتين وأصاب اثنتين.

أراد صاحبنا أن يبرهن للقاضي أبي يوسف أن القضاء الذي هو صنعة أبي يوسف لا يستقيم أمره إلا بالنحو، فالسؤال الذي وجهه الكسائي في الفقه والقضاء، ولا جواب له إلا بالنحو، وكانت هذه عادة صاحبنا في مناظراته مع القاضي أبي يوسف، إلى أن جعل أبا يوسف يمدح العربية والنحو.

طفق صاحبنا بعد أن لاحظ خطأ أبي يوسف يحلل له المسائل التي سأله فيها تحليلا نحويا دلاليا، فقال: أما قوله: أنت طالق طالق طالق فواحدة، لأن الثنتين الباقيتين تأكيد كما يقول أنت قائم قائم قائم، وأنت كريم كريم كريم، وأما قوله: أنت طالق أو طالق أو طالق فهذا شك، فوقعت الأولى التي تتيقن، وأما قوله: طالق ثم طالق ثم طالق فثلاث لأنه نسق، وكذلك طالق وطالق وطالق.

العالم البحر:
حصل الكسائي خلال ارتحاله العلمي علما كثيرا، ولقد كانت كلمات الهباريين التي قالوها في نقد لحنه فاتحة خير عليه لم ينقطع، فقد ألم بعلوم شتى، ولم يكتف بالوقوف عند حد النحو.

ويدلنا على ذلك ما رواه صاحب وفيات الأعيان عن السجستاني إذ يقول: قال محمد بن الحسن الأزدي: حدثنا أبو حاتم قال: وفد علينا عامل من أهل الكوفة ولم أر في عمال السلطان أبرع منه، فدخلت عليه مسلما فقال لي: يا سجستاني، من علماؤكم بالبصرة قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازني أعلمنا بالنحو، وهلال الرأي أفقهنا، والشاذكوني من أعلمنا بالحديث، وأنا - رحمك الله - أنسب إلى علم القرآن، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط. قال: فقال لكاتبه: إذا كان غدا فاجمعهم إلي، قال: فجمعنا فقال: أيكم المازني، فقال أبو عثمان: ها أنا ذا، قال: هل يجزي في كفارة الطهارة عتق عبد أعور؟ قال المازني: لست صاحب فقه، أنا صاحب عربية، قال: يا زيادي، كيف يكتب بين بعل وامرأة خالعها على الثلث من صداقها؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم هلال الرأي، قال: يا هلال، كم أسند ابن عون عن الحسن قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم الشاذكوني، قال: يا شاذكوني، من قرأ: (تثنوني صدورهم). قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم أبي حاتم، قال: يا أبا حاتم، كيف تكتب كتابا إلى أمير المؤمنين تصف خصاصة أهل البصرة، وما أصابهم في الثمرة، وتسأله لهم النظر والنظرة قلت: لست صاحب بلاغة وكتابة، أنا صاحب قرآن؛ قال: ما أقبح الرجل يتعاطى العلم خمسين سنة لا يعرف إلا فنا واحدا حتى إذا سئل عن غيره لم يجل فيه ولم يمر، لكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن هذا كله لأجاب[وفيات الأعيان:2/432].

كان صاحبنا ذا حظوة عند هارون الرشيد وكان موضع ثقة وإجلال، حتى إنه ليحكي عن نفسه وهو يصلي بهارون الرشيد ذات يوم فيقول: صليت بهارون الرشيد فأعجبتني قراءتي فغلطت في آية ما أخطأ فيها صبي قط؛ أردت أن أقول (لعلهم يرجعون) فقلت (لعلهم يرجعين)؛ قال: فوالله ما اجترأ هارون أن يقول لي أخطأت، ولكنه لما سلمت قال لي: يا كسائي أي لغة هذه، قلت: يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد؛ فقال: أما هذا فنعم[السير:9/233].

لم تقف مناظرات صاحبنا عند القاضي أبي يوسف أو يونس بن حبيب البصري، بل إن له مناظرات ممتعة مع كثير من العلماء، ولقد ذكرنا لك في العدد الأول يا – هداك الله – طرفا من مناظرته مع سيبويه التي عرفت بالمسألة الزنبورية في النحو.

وكانت لصاحبنا مناظرات مع اليزيدي وصولات وجولات اتسمت بالتنافس القوي الذي كان مرده إلى أن الكسائي قد آل به الأمر إلى أن يؤدب الأمين، وأن يؤدب اليزيدي المأمون.

ومن المناظرات التي دارت بينهما ما روي من أن الرشيد جمع بين الكسائي وأبي محمد اليزيدي، يتناظران في مجلسه، فسألهما الكرماني عن قول الشاعر:

ما رأينا خربا ينـقر عنه البيض صقر لا يكون العير مهرا لا يكون؛ المهر مهر

فقال الكسائي: يجب أن يكون المهر منصوبا على أنه خبر كان، ففي البيت على هذا إقواء. فقال اليزيدي: الشعر صواب؛ لأن الكلام قد تم عند قوله: لا يكون الثانية، ثم استأنف، فقال: المهر مهر، ثم ضرب بقلنسوته على الأرض، وقال: أنا أبو محمد. فقال له يحيى: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال الرشيد: والله، إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه لأحب إلي من صوابك مع سوء أدبك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ فأمر بإخراجه[طبقات الشافعية3/132].

أذهبت حلاوة الظفر عن اليزيدي التحفظ؛ ففرح بما كان منه أمام عالم الكوفة وأستاذها، وما كان التنافس ليحمل اليزيدي على بغض الكسائي، بل كان يعرف له قدره ويجله، وليس أدل على ذلك من الأبيات التي قالها اليزيدي في رثاء الكسائي بعد أن خرج الأخير مع هارون الرشيد إلى الري، وكان بصحبتهما محمد بن الحسن القاضي صاحب أبي حنيفة، فمات القاضي محمد بن الحسن، ومات الكسائي في بلد واحد، وهو قرية رنبويه بالري، وكانا متوجهين مع الرشيد إلى خراسان، فقال الرشيد: دفنا الفقه والنحو بالري[10]؛ وباغت الخبر اليزيدي فأحزنه، وحرك أشجانه، فقال:
تصــرمت الدنيــا فليـس خــــلود وما قد يـرى من بهجة سيبيد
أسيت على قاضي القضاة محمد فأذريت دمعـا والفـؤاد عمــيد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا بإيضــاحه يوما وأنت فقــيد
فأوجعني موت الكسائي بعده وكادت بي الأرض الفضاء تميد
 هما عالمــان أوديا وتخــرما ومـا لهمــا في العــالمــين نـديــد
فحزني إن تخطر على القلب خطرة بذكرهما حتى الممات جديد

قال الرشيد: أحسنت يا بصري، قد كنت تظلمه في حياته وأنصفته بعد موته[الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي1/683].

أيها القارئ الكريم؛ طوفنا بك سريعا حول الكوفة والبصرة وبوادي الحجاز ونجد وتهامة وبغداد والري؛ مع عالم من علمائنا في القراءات واللغة والنحو؛ إنه الكسائي عالم الكوفة، بل عالم الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أسأل الله العلي العظيم أن يمطره سحائب الرحمة والغفران، وأن ينفع المسلمين بما بقي من علمه.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة