- اسم الكاتب:محب الدين الخطيب
- التصنيف:خواطـر دعوية
هذا مقال كتبه الشيخ محب الدين الخطيب عام 1349هـ، وتم نشره في مجلة "الفتح" في ذلك الوقت، أي قبل أكثر من 79 سنة.. غير أنه يصف حالنا في هذا الزمان، ويبدو أن التاريخ لم يتغير كثيرا منذ كتب المقال، وإلى وقتنا الحاضر، ولذلك أحببنا أن نعيد نشره لما فيه من المنافع.
يقول رحمه الله:
"رأيت ضعاف القلوب من بني قومي يكاد يستولي عليهم اليأس بسبب ما يفجأهم من مختلف الكوارث التي تتناول أبناء الإسلام في كثير من الأقطار، وهم يحسبون أن هذه الكوارث بنت ساعتها، وأنها مما يكفي لمقاومته الوسائل السريعة.
نحن نرى أن المعركة القائمة الآن بين الشرق والغرب – أو بين الإسلام والنصرانية – إنما هي صفحة من صفحات حرب متواصلة ابتدأت يوم كان بطرس الناسك يطوف على حماره بلاد أروبا محرضا على إثارة الحروب الصليبية.
وجريدة La Tunisie Françoise الاستعمارية المتعصبة تذهب إلى أبعد من ذلك، وترى أن ما تفعله فرنسا الآن في شمال إفريقية إنما هي جواب على ظهور الإسلام نفسه، لأن ذلك في نظرها ذنب لا يقاس به ذنب، وهي تقول بالحرب الواحد: "لو أن العرب لبثوا في جزيرتهم العربية لما كانت تقع حروب صليبية.
فالخواجة الفرنسي الذي أمسك بيده القلم ليكتب في جريدة La Tunisie Françoise مقالة في موضوعنا مقتنع بأن الحروب الصليبية كان ضرورية، وأن سببها خروج العرب من جزيرتهم العربية لنشر الإسلام. فنشر الإسلام في خارج جزيرة العرب ذنب يستحق عليه العرب والمسلمون أن تتألب عليهم أوربا وأن تحاول سحقهم أمس واليوم.
وكل ما ينفقه الغرب الآن على التبشير المسيحي في الشرق – سواء أكان بروتستانيا أو كاثوليكيا – وكل ما يقوم به الغرب من مساعي استعمارية لنقل ملكية أرض شرقية وتحويل مصالح الشرق وأمواله من أيدي الشرقيين إلى أيدي الغربيين، بل كل ما يرسمه الغرب من خطط التعليم والتثقيف في الشرق بواسطة مدارسه التبشيرية أو اللادينية (اللاييك) وبصحفه وكتبه ورجاله المنبثين في إدارات المعارف الشرقية – كل ذلك إنما يراد به إرجاع الإسلام إلى جزيرة العرب، وتقليص ظله عما سواها، لأن الإسلام عدوهم القديم منذ أطل على الدنيا من جزيرة العرب، ولأنه دين يحول بين المستعمرين وبين سهولة استيلائهم على الدنيا وتصرفهم فيها واتخاذهم سكانها أدوات يستغلونها لسعادة أبنائهم وبناتهم، كما يستغلون تربة الأرض وما عليها من المواشي.
هذه كلمة مجملة في وصف المعركة القائمة بين الغرب والشرق، أو بين الإسلام والنصرانية من أيام صلاح الدين إلى يوم الناس هذا. فمن السذاجة أن نظن أن هجمات النصرانية على الإسلام من الحوادث الجديدة التي نفاجأ بها مفاجأة، وأعرق من ذلك في السذاجة أن نظن أن المقاومات الوقتية التي نقوم بها عند حدوث الهجوم علينا كافية للاطمئنان على المستقبل.
للإسلام قوة لا شك أنها عظيمة جدا؛ وهو يبعث في أهله بواعث النهوض السريع الذي تنشأ عنه العجائب في ظروف كثيرة. وكم من مرة وقف المسلمون في وجه الأوربيين وقفات ذات تأثير على النتائج يحير الألباب. لكن ليس من شأن العقلاء الاعتماد على هذه الظروف الاستثنائية، والتفريط فيما نحن مأمورون به من الاستعداد، بل من الواجب علينا أن تكون لنا خطة ندعو بني ملتنا إلى اتباعها وإلى أن يكون كل فرد منا عاملا على تحقيقها.
هذه الخطة ذات وجوه متعددة، وكل طبقة من طبقات الأمة تستطيع أن تضطلع بأعباء وجه من وجوهها.
أساس هذه الخطة ركنان اثنان:
1 ـ تعيين طريق واضحة في الثقافة اللازمة للمسلمين، حتى تكون الأجيال الآتية تكوينا صالحا للانتصار في معارك الشرق والغرب التي ستنشب في المستقبل.
2 ـ عدم تمكين الغرب من أن ينمي قوته على حسابنا، وأن يزيد موقفه رسوخا في أوطاننا عن رضى منا واختيار.
أما الثقافة اللازمة للمسلمين: فهي التي تجمع بها الناشئة الإسلامية بين التخصص في العلوم الكونية، وبين التمسك بهداية الإسلام ومعرفة المفاخر القومية والمحافظة على الأمجاد الملية.
ومتى نشأ الناشئ حريصا على دينه شديد الحب لقومه، كان ذلك ضمانة كافية لاستعمال معارفه الكونية فيما يدفع عن الإسلام صولة الهاجمين، وعن الشرق جشع المستعمرين.
والمسلم المتعلم إذا كان متمسكا بهداية دينه كان بها من أهل الفضائل، وكان له منها نور يكشف به دسائس الأعداء، ويدرك ما ينصبونه من شراك وحبائل لاستغلال الشرق واتخاذه بقرة حلوبا يتغذى الغربيون بلبانها.
هذا هو الشطر الأول من الجهاد الذي يترتب على المتعلمين وعلى من يرسم للمتعلمين مناهج التعليم، وعلى من يوقظ راسمي المناهج إلى ما يجب عليهم لوطنهم ودينهم من هذه الناحية.
ولو أن خطط التعليم في الشرق الإسلامي أو في بعض بلاده أمكن أن ترسم من وجهة النظر الإسلامية لانحل جانب كبير من المشكلة التي نحن واقعون في ورطتها، ولكان لنا رجال يأخذون بيد الأمة إلى النهضة الصحيحة في اقتصادياتها واجتماعياتها وفي سائر شئونها.
وهناك شطر آخر من الجهاد يستطيعه كل رجل منا، ولا عذر لأحد إذا قصر فيما يستطيعه منه.
هذا الجهاد يقوم على كلمة واحدة وهي: "أن لا ندع القرش الواحد ينتقل من ملكية أبناء ملتك إلى ملكية أعدائك، مهما كلفك ذلك من عناء تستطيعه".
أما إن كان في ذلك عناء هو فوق طاقتك، فحينئذ يجوز لك أن تقدر الضرورات بقدرها، بشرط أن لا تزيد على ما تقضي عليك الضرورة به.
إخراج القرش من ملكية أبناء ملتك إلى ملكية الغربيين له معنى واحد، وهو تمكين الغرب من أن يزيد قوته على حسابنا، وأن يزيد موقفه رسوخا في أوطاننا عن رضى منا واختيار. فالشاب المسلم الذي يجلس على كرسي في أحد المقاهي التي يديرها الخواجات، ويطلب من غلام المقهى كأسا من الويسكي الإنكليزي، وفيما هو يحتسيه يحدث جلساءه في الشئون الوطنية ـ هو من أشد الناس خيانة للوطن ـ لأنه ينقص من قوة الوطن ويزيد في قوة الإنكليز بمقدار ما أنفق في تلك الجلسة ثمنا للويسكي أو غيره. وقس على ذلك جميع الكماليات، بل قس على ذلك كل ما نشتريه من مصنوعات أوروبا، وكان في الإمكان أن لا نشتريه.
الأوربيون لا يخافون منا شيئا بمقدار ما يخافون أن نستغني عن مصنوعاتهم، وبمقدار ما يتوقعون من إمساكنا قروشا عن أن تنتقل من ملكيتنا إلى ملكيتهم.فهل في إمكان جميع أفراد الأمة أن يستغنوا عن استعمال ما يزيد الأجانب قوة ويزيدنا ضعفا، وهل في إمكان المتعلمين منا والأغنياء والتجار أن يتعاونوا على ترقية مصنوعاتنا الوطنيةو توسيع ينابيع ثروتنا؛ حتى يكون لنا من بضائعنا الوطنية ما لا نحتاج معه إلى بضائع الأجانب؟
إذا استطعنا ذلك كان انتصارا باهرا لنا في هذه المعارك الناشبة بين الشرق والغرب من أيام صلاح إلى اليوم.. وإنا نستطيعه إن شئنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة الفتح "القاهرة": السنة الخامسة، العدد 224.