- اسم الكاتب:الأمير اشكيب أرسلان
- التصنيف:تاريخ و حضارة
حياة الأمم كحياة الأفراد، عبارة عن مسابقة شاقة، ينال فيها كل بحسب استعداده، وعلى قدر اجتهاده، ومن حيث إننا نتكلم الآن على الشعوب، لا على أفراد، وعلى الوسائل التي تتوسل بها هذه الشعوب لأجل النهوض من الحضيض الأوهد، إلى السنام الأمجد، كان بدهيا أن نقول: إن رأس وسائل النجاح في هذه المسابقة هو العلم، ليس في ذلك نزاع، ولكن العلم فنون كثيرة، لا تكاد تحصى، فأي فن من فنون العلم يجب على الأمة الناشدة لأسباب الترقي أن تنشده قبل غيره، وتبدأ به لتعرج إلى العلاء؟ الجواب هو: الأدب، وربما ذهب أناس من المفكرين إلى أن رقي الأمم يتوقف على العلوم الصحيحة.
أو ما يسمى بالعلوم الثابتة؛ كالرياضيات، أو كالطبيعيات، وما تفرع منهما، وهو كلام من حقه أن يبحث، وهو صحيح من حيث المآل؛ ولكن المرحلة الأولى في طريق نجاح الأمم هي للأدب، دون غيره؛ وذلك لأن الأدب هو ثقاف النفس، وصقال الهمة، ومثار كوامن العزائم، وهو المشتمل على نواحي الحياة الروحية كلها، فالنفس لا تتوق إلى المعالي إلا بالأدب، وهو المهماز الأعظم الذي يبعث النفس على الخب في ميدان المجد، ومتى أوجد الأدب هذا الشوق إلى المجد نشدت الأنفس ضواله المتعددة، أينما وجدتها، ومن أي نوع كان، فكانت العلوم الكونية والمعارف الطبيعية، وجميع الأسباب التي لا تترقى الأمم إلا بها: النظم والنثر، والزجل والأمثال، والحكم والقصص، والتاريخ والأساطير، وكل ما يهز النفس ويروقها، ويثير فيها الوجد ويشوقها، هي ألوان الأدب الذي لا مناص للأمم التي تبغي العلاء، وتتقي الفناء من استيفاء شروطه، واستكمال أدواته، حتى ترقى معارج المدنية، وتتسق لها السعادة في الداخل والسيادة في الخارج.
وبعبارة أخرى: العالم مركب من مادة ومعنى، فالمادة جامدة صلدة صامتة، لا تعلق لها بالإرادة؛ ولذلك فهي تنتظر التصريف من عالم المعنى الذي هو المملكة الروحية القائدة المدبرة، المرشدة الآمرة الناهية، التي إذا تعلقت إرادتها بشيء مضت تطلب أسبابه المادية، فكان عالم المادة خادما لعالم المعنى، خدمة الجسم للروح، وكان مقدار هذه الخدمة على نسبة مقدار الإرادة وقوتها، فإذا اشتدت الإرادة في أمر، أطاعتها المادة فيه إطاعة بعيدة المدى عميقة الغور، وإذا كانت الإرادة فيه ضعيفة، كانت طاعة المادة للإرادة ضعيفة، وجاءت خدمتها لها ضئيلة، كما نشاهد من أحوال الأمم اللائي لا يزلن في دور الانحطاط، فإن استمرار قصورها منشؤه الحقيقي فقدها لأسباب الرقي المادية، من بخار وزيت وكهرباء وما أشبهها، وفقدها لهذه الأسباب إنما هو من ضعف إرادة هذه الأمم في نشدانها، وضعف هذه الإرادة إنما هو من ضعف ملكة الأدب فيها؛ إذ لو كان ناشئة هذه الأمم يقرؤون من الأشعار ما يهز أوتار أعصابهم، ويحفظون من الأزجال ما يثير كوامن نفوسهم، ويستظهرون من الحكم والأمثال ما يوسع دائرة عقولهم، ويطالعون من التاريخ ما يفسح آفاق تفكيرهم، وما يقوي فيهم الرجاء، ويدفع اليأس إلى الوراء - لكانت الأمة أرقى حالا، وأشد على العلم إقبالا.
وقد يكون للقصص والأساطير أيضا - وهي من المنازع الأدبية - عمل عظيم في أنفسهم، يسوقهم إلى الكمال، ويحفزهم إلى المثل الأعلى؛ لأنه كما تقدم القول عليه لا تتحرك الإرادة إلا من بعثة روحية، وعن نهضة نفسية، وهذه إنما يقتدح زنادها الأدب، وتلقح مزنها رياح النظم والنثر، وتستنبط ينابيعها مطالعة التواريخ، وتنشل كنائنها الأزجال والأسجاع والأقوال التي تتسوغها الطباع، والأمثال التي تهفو إليها الأسماع.
فقولنا - إذا -: إن الأدب هو المرحلة الأولى من مراحل الحياة المستراد لمثلها، إنما هو القول الفصل المنحوت من أصفى مقاطع الحقيقة، ولولا ذلك ما قال المؤرخون: إن الثورة الفرنسية الكبرى ما كانت لتثور، لولا الأفكار التي زرعها "فولتير، وروسو"، وهما من أساطين الأدب، ولما كان "كارليل" الكاتب الإنكليزي يقول: "نحن الإنكليز نرى شكسبير أنفس لدينا من الهند"، فإن هذا القول يبدو غريبا لمن لم يتأمله حق التأمل، فيقول: كيف أن فذا من أفذاذ الإنكليز مهما علا في الأدب كعبه، وملك العقول سلطانه، يكون لدى أدباء الإنكليز أثمن من الهند، التي تتوقف عليها عظمة بريطانيا العظمى كلها، ولكن من تعمق في النظر يجد أن شكسبير هو الذي بقصائده هز عواطف الأمة الإنكليزية، فأوردها موارد الصفاء، وأصعدها مصاعد العلاء، وحبب إليها الجمال والجلال، وأطمعها في القلم والكمال، وإن فتح الهند المشتملة على مئات الملايين من الأنفس إنما كان من ثمرات تلك الشجرة الأدبية، التي غرستها يد شكسبير في هذه الأمة العظيمة.
ولولا أن يكون الأدب هو مصدر الانبعاث الروحي، ما كان الألمان فتنوا بغوايته، إلى حد أن شبانا كثيرين انتحروا من شدة التأثر بإحدى رواياته، وما كان بعضهم يقول: إن الله عوض الألمان من المستعمرات بالأفكار الفلسفية، ومن الفتوحات العسكرية بالفتوحات العقلية.
هذا؛ وما تبسطت أمة في الفتح والاستعمار، إلا على أثر نغمات شعرائها، ونبرات خطبائها ونفثات أدبائها، فهم هم المحركون للساكن، الموقظون للهاجع، الناشرون للهامد، الرافعون للمتضامن، الحافزون للقاعد، المتصرفون بقلوب الأمة التي من بعد تصرفهم بها تنصرف بما لديها من مواد وخيرات، على أيدي المهندسين والصناع والزراع، وسائر العاملين بالمادة، وأما العرب فلم يشذوا على هذه القاعدة؛ بل كان الأدب من أعمل العوامل في نفوسهم، ولن تجد لهم فضيلة من قبل الإسلام، إلا كان الباعث إليها الأدب من شعر وقصة وعظة ومثل، فهذه هي التي رغبتهم في الفضائل، ونفرتهم من الدنايا، وهونت عليهم بذل المهج في حفظ الذمار، وصون العرض، وإغاثة الملهوف، والانتصار للضعيف، وهي التي قدست لديهم قرى الضيف، والإيثار على النفس، وكون الإنسان يعطش إلى أن يموت، حتى يسقي أخاه النميري، وهي التي جعلت البدوي المعدم المنتبذ قاصية الفلاة تضيق عليه مذاهبه، وتضيق عليه نفسه، وقد أقبل صوب خيمته ضيف هو عاجز عن قراه فقال:
فقال هيا رباه ضيف ولا قرى *** بحقك لا تحرمه تا الليلة اللحما
وابنه يراه في هذه الحيرة، وهو غلام يافع، فيقول لأبيه: "يا أبت اذبحني، ويسر له طعاما" ويقول لأبيه: "إلا تفعل يكن عارا كبيرا علينا، فقد يظن الضيف أننا بخلنا عليه بالزاد، ونحن نملكه، يظن لنا مالا فيوسعنا ذما"، وإن الرجل قد يهم بذبح ابنه، لولا أن الله أنقذه من هذه الورطة بمرور عانة ظباء، أصمى منها بسهمه واحدة في إبان احتياجه إلى القرى، ولكنه كان قد حدث نفسه بذبح ابنه عندما ضاق به الأمر "وإن هو لم يذبح فتاه فقد هما".
وما كانت للعرب فعلة مجيدة إلا أخذت من الأدب عهدا، ومن الشعر موثقا، ولا دارت معركة ظهروا فيها على أعدائهم إلا خلدتها أشعارهم، وسارت بها أزجالهم، وكانت حافزا لهم على مواقف مثلها.
انظر إلى قصائد أبي تمام والبحتري والمتنبي وغيرهم في مغازي الخلفاء، ومقاماتهم في الذب عن هذه الأمة - تجد فيها من العزة القومية ما يحرك الجماد، ويزلزل الأطواد، وذلك مثل قصيدة أبي تمام في فتح عمورية التي أولها:
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب
وقصيدته في ذكر تغلب العرب على العجم في يوم ذي قار قبل الإسلام:
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد *** وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صهب الأعاجم أنه به *** أعربت عن ذات أنفسها العرب
فأي عربي يسمع هذا الشعر ولا ترقص ناصيته، ولا تهتاج مريرته؛ عزة بقومه، ونخوة بعصبيته، ولا يستخف بالمنايا في سبيلهما؟!
وماذا نحصي من أمثال هذه القصائد، التي تغنى فيها شعراؤنا بمجد العرب وعليائهم، فينطبع بها ناشئتهم على الغرام بالفتح، والمجد، ومعالي الأمور، وشرائف الأعمال، ويعلمون أنهم سلائل تلك الأمة العظيمة الفاتحة، إننا إن حاولنا إحصاءها، كنا كمن يحاول إحصاء رمل عالج، وإنما نجتزي هنا بمجرد الإشارة.
وقد بقي الشعر في العرب يرفع ويخفض، وينصر ويخذل، وهو أدب العرب الأسنى في الجاهلية إلى أن نزل الوحي على محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - فنسخ الأدب الإلهي كل أدب قبله، وأقرض الأخلاق ما كان مستحسنا، وأبطل ما كان من حمية الجاهلية الجهلاء، فأصبح الأدب مقيدا بالشرع، فاعتدل مائله، ودجن نافره، وسلكت به المحجة الوسطى، وعدل عن شعاب الانحراف وترهات الإسراف، فسار الدين مع الدنيا رفيقين، وتجلت الأولى والعقبى توأمين، وبدهي أن أدبا أثمره الوحي، وثقافا أنجبه القرآن، وفصاحة غذتها فصاحة التنزيل - لمما يفوق كل أدب أخرج علما وعملا.
وقد شهد التاريخ العام للأدب القرآني بخوارق العادة في أسلوبه وتأثيره، ولم تكن هذه الفتوحات التي دهش بها المؤرخون، ومكنت الإسلام من نصف المعمورة في نصف قرن لا غيره، إلا ثمرة هذا الأدب العالي، الذي كان يفعل بالألباب فعل الشراب، وناهيك بآداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله وأصحابه حملة ألويتها، وعمار أنديتها، وقد قلت فيهم برثائي لجاحظ العصر مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله -:
من ذا يطاول في البلاغة أحمدا *** وصحابه وأبا تراب حيدرا
المعربين إذا أرادوا خاطرا *** عنه بأعذب ما يكون وأقصرا
والمانعين المسكرات وقولهم *** ما خامر الألباب إلا أسكرا
نعم، إن فتوحات الصحابة لم تكن كلها بجوامع الكلم، وأوابد الشعر، وكان العامل الأعظم فيها الصارم البتار، وقد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولكن كم من كتابة أغنت عن كتيبة! وكم من قول أغنى عن صول! وكم من معركة كانت تدور الدائرة فيها على المسلمين، لولا شعراؤهم وخطباؤهم وشواعرهم وأديباتهم وفرسان البيان منهم! وقد طالما لعب الشعر الحماسي أدوارا في هذه الفتوحات، التي قلبت وجه العالم، وطالما منع عنهم خوف العار، واتقاء الأشعار - هزيمة شنعاء، وداهية دهياء، ولله در المتنبي الذي يقول:
تلف الذي اتخذ الجراءة خلة *** وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
والعار مضاض وليس بخائف *** من حتفه من خاف مما قيلا
وخلاصة القول:
إن أرقى المجتمعات البشرية هي التي يشع فيها الأدب، ويعلو مناره، وينتظم به القول مع العمل، ويتآخى فيه الخيال مع الواقع، وتسير به الحقائق إلى جانب الرقائق؛ فإن الطبع البشري يأبى التمحض في منحى واحد، ولا بد لرقي المجتمع من تأليف الأضداد، وتعديل الأقسام؛ حتى يحصل الاعتدال.
__________
بــ"تصرف"