وجعلنا من الماء كل شيء حي (2)

0 1304

ذكرنا في مقال سابق ضرورة الماء في حياة الكائنات، كونه أحد أهم عناصر الحياة، ونتابع في هذا المقال ما يبين وجه الإعجاز في قوله سبحانه: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} (الأنبياء:30)، فنقول:

لما كانت الأمطار لا تسقط إلا في أشهر محددة من السنة في معظم أرجاء اليابسة، فقد وفر الله وسائل عدة لحفظ مياه هذه الأمطار؛ لتزود الكائنات الحية بالماء على طول أشهر السنة. ومن هذه الوسائل الثلوج، التي تغطي قمم الجبال الشاهقة، والتي تذوب في الصيف لتمد الأنهار والينابيع وبحيرات الماء العذب بكميات كبيرة من الماء. وكذلك طبقات الصخور التي تختزن كميات كبيرة من المياه الجوفية، فتخرج على شكل ينابيع، لا تكاد تخلو منها أي منطقة على هذه اليابسة. ومن عجائب التقدير الإلهي أن هذه الينابيع قد تتفجر في مناطق قاحلة، لا يسقط عليها المطر أبدا، فيأتيها الماء من أماكن بعيدة على شكل أنهار تجري عبر طبقات الصخور، وصدق الله العظيم حيث يقول: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} (الزمر:21) والقائل سبحانه: {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} (الحجر:22) وبما أنه لا يمكن لكثير من الكائنات الحية أن تعيش بدون الماء لفترات لا تتجاوز عدة أيام، فإن من فضل الله عليها أن قام بتوزيع مصادر الماء في كل ركن من أركان هذه الأرض؛ لكي ينتشر البشر وبقية الكائنات الحية في جميع أرجاء الكرة الأرضية، وصدق الله العظيم القائل: {وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا * لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا} (الفرقان:48-50). 

وإذا كان الله سبحانه قد مكن الحيوانات من الحركة لتصل إلى مصادر الماء والغذاء لتأخذ منهما حاجتها، فقد صمم آليات معقدة لتوفير الماء للنباتات، التي لا يمكنها الحركة على الإطلاق؛ فقد تم تهيئة تراب الأرض، وتشكيل الصخور التي تحتها، بحيث تحتفظ بماء الأمطار لفترات طويلة، ولكي تتمكن النباتات بمختلف أنواعها من الحصول على حاجتها من الماء في فترات انقطاع المطر عنها. وقد زود الله هذه النباتات بجذور يمكنها الغوص في أعماق التراب والصخور؛ لكي تصل إلى أماكن الماء، وقد أخبر سبحانه عن هذه الحقيقة بقوله: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون} (المؤمنون:18-19).

ومن البدهي أن يثار التساؤل حول السبب الذي جعل الماء أحد أهم عناصر الحياة التي لا يمكن لها أن تظهر على الأرض ولا على أي كوكب آخر بدونه. وللإجابة على هذا التساؤل، لابد من التذكير بحقيقة مهمة عن طبيعة الحياة، وهي قدرة الكائنات الحية على أن تصنع نسخا عن نفسها بنفسها من العناصر والمركبات الموجودة على الأرض. فجميع أنواع الكائنات الحية تبدأ عملية تصنيعها من خلية واحدة، يحتوي شريطها الوراثي على جميع مواصفات جسم الكائن الحي، ويتم تصنيع الكائن من خلال التعليمات التي يصدرها هذا الشريط لبعض مكونات الخلية. وتحتاج الكائنات الحية لبناء أجسامها إلى مواد مختلفة بمواصفات محددة، وهذه المواد يتم تصنيعها من تراب هذه الأرض، الذي يحتوي على جميع العناصر الطبيعية التي أنتجتها نجوم هذا الكون. وبما أن عملية تصنيع الكائنات الحية وما تحتاجه من مواد عضوية تتم دون تدخل أي قوة خارجية، فعلى هذه المواد أن تصنع نفسها بنفسها، وأن تأخذ مواقعها في جسم الكائن من تلقاء نفسها. وبما أن هذه المواد ليس لها أيد تمسك بها، أو أرجل تمشي عليها، فمن المستحيل أن تقوم بهذه المهمة، إذا ما بقيت في أماكن تواجدها في تراب هذه الأرض. إن الطريقة الوحيدة التي تسهل حركة هذه المواد هو من خلال إذابتها في سائل ما، يسمح لجزيئاتها بالحركة من خلال ظاهرة طبيعية، وهي ظاهرة الانتشار. وفي مثل هذا السائل يمكن لجزيئات المواد المختلفة أن تتحرك بحرية ما يساعدها على الالتقاء ببعضها البعض، وقد يؤدي هذا الالتقاء إلى حدوث التفاعلات الكيميائية بين هذه المواد لإنتاج مواد أكثر تعقيدا. إن وجود مثل هذا السائل، هو أول شرط من شروط ظهور الحياة في أي مكان في هذا الكون، فالمواد في حالتها الصلبة، وخارج هذا الوسط السائل، تحتاج إلى من يخلطها باستمرار؛ لكي يحدث التفاعل فيما بينها؛ أما في حالة وجودها مذابة في السائل، فإن هذه المواد ستتحرك من تلقاء نفسها بسبب خاصية الانتشار.

ويؤكد العلماء على أن الحياة ظهرت على الأرض بسبب الخصائص الفريدة والعجيبة للماء، فبدون هذه الخصائص لا يمكن للحياة أن تظهر أبدا. ومما أثار استغراب العلماء أن جميع خصائص الماء الفيزيائية والكيميائية هي خواص شاذة، أي أنها تختلف عن خواص مركبات مشابهة لها في التركيب، ما حدا بعالم الكيمياء الفيزيائية الروسي إيغور بتريانوف بأن يصفه بأنه أغرب مادة في هذا الكون، وذلك في كتابه "الماء تلك المادة العجيبة".

لقد أثبت العلماء أن الماء هو السائل الوحيد من بين جميع السوائل الطبيعية، الذي يصلح لأن يكون وسطا مناسبا لحدوث التفاعلات الكيميائية، التي تلزم لتصنيع المواد التي تحتاجها أجسام الكائنات الحية. فقد وجد العلماء أن الماء هو أفضل المذيبات على الإطلاق بسبب ارتفاع ثابت عزله الكهربائي، وهذه الخاصية بالغة الأهمية للحياة، حيث أن الكائنات الحية تحتاج لآلاف الأنواع من الجزيئات التي يجب أن تصنع في داخل هذا الماء، وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت هذه الجزيئات قابلة للذوبان في الماء. ويستطيع الماء إذابة مختلف أنواع العناصر والمركبات العضوية وغير العضوية، وسواء أكانت هذه المواد في حالتها الصلبة أم السائلة أم الغازية. 

والخاصية الثانية التي لا تقل أهمية عن الأولى، فهي أن الماء له القدرة على تأيين أنواع مختلفة من الجزيئات الضرورية للحياة، أي أن الجزيء يتفكك إلى أيونات موجبة وأخرى سالبة، وهذا شرط ضروري لحدوث التفاعلات الكيميائية بين المواد المختلفة. بل الأعجب من ذلك أن الماء له القدرة على تأيين بعض جزيئاته، وهذه الظاهرة ضرورية لإتمام كثير من التفاعلات الكيميائية، التي تجري في داخل الخلايا الحية. فجزيء الماء المتأين ينتج أيون الهيدروجين الموجب والمسؤول عن ظاهرة الحموضة، وأيون الهيدروكسايد السالب المسؤول عن ظاهرة القاعدية. وقد وجد العلماء أن بعض الأنزيمات لا تعمل إلا عند درجات محددة من الحموضة، أو القاعدية في الماء. 

والخاصية الثالثة فهي قدرة الماء العالية للالتصاق بالأشياء التي يلامسها، وهذه الخاصية تساعد في انتشار الماء بكل سهولة في أجسام الكائنات الحية، بحيث يمكنه الوصول لكل خلية من خلايا أجسامها، التي لا يمكن لها أن تعيش بدونه. وبما أن الماء لا يقوم بدوره هذا إلا وهو في الحالة السائلة، فهذا يتطلب أن يكون الماء في هذه الحالة السائلة على مدى نطاق واسع من درجات الحرارة. وقد وجد العلماء أن الماء يتميز على جميع المركبات السائلة الأخرى في وجود فرق كبير بين درجة تجمده ودرجة غليانه، فهو يتجمد عند درجة الصفر، ويغلي عند درجة مائة درجة مئوية، أي بفارق مائة درجة. وبهذه الخاصية فإن الماء يشذ شذوذا كبيرا عن بقية هيدرات العناصر الأخرى، فدرجة تجمده كان يجب أن تكون مائة درجة تحت الصفر، ودرجة غليانه كان يجب أن تكون ثمانين درجة تحت الصفر، إذا ما قورن مع مركبات مشابهة له في التركيب. ومن عجائب التقدير في خلق الأرض، أن التفاوت في درجة حرارة معظم مناطق سطحها، يقع ضمن المدى الذي يكفل بقاء الماء في حالته السائلة؛ ولهذا نرى أن معظم الماء الموجود على سطح الأرض، هو في الحالة السائلة. ومن العجيب أن الكائنات الحية التي تعيش في مناطق تهبط فيها درجات الحرارة إلى ما دون درجة تجمد الماء، قد تم تزويدها بآليات تمنع الماء الموجود في أجسامها من التجمد، على الرغم من أن الماء يشكل ما يزيد عن ثمانين بالمائة من أجسامها. 

والخاصية الرابعة للماء فهي خاصية عجيبة، لا يمكن أن توجد فيه إلا إذا كان الذي صنع هذا الماء من عناصره يعلم علم اليقين، أن هذا الماء سيؤدي دورا بالغ الأهمية في ظهور الحياة على الأرض. وتتلخص هذا الخاصية في أن أكبر كثافة للماء تحدث عندما تكون درجة حرارته أربع درجات مئوية، أي أن الماء في حالته الصلبة أخف منه في حالته السائلة، وهذا على عكس جميع السوائل الأخرى، التي تزيد كثافتها كلما قلت درجة حرارتها. وهذه الخاصية ضرورية جدا لبقاء معظم الماء على سطح الأرض في حالته السائلة، فلو كان حال الماء كحال بقية السوائل لتحولت جميع محيطات وبحار الأرض إلى جليد، باستثناء طبقة رقيقة سائلة على سطوحها المعرضة للشمس. ولكن بسبب هذه الخاصية العجيبة، فإن الماء عند سطح المحيطات إذا ما تعرض لدرجات حرارة منخفضة، فإنه يهبط للأسفل إذا ما بلغت درجة حرارته أربع درجات مئوية، ويتم استبداله بماء أسخن منه من أسفل المحيطات، مما يحول دون تجمد السطح. وإذا ما بلغت درجة حرارة جميع ماء البحر أربع درجات مئوية، فإن أول ما يبدأ بالتجمد ماء السطح مما يشكل طبقة عازلة، تحول دون تجمد بقية ماء البحر، وبهذا وفرت هذه الآلية العجيبة حياة آمنة لجميع الكائنات الحية البحرية في مياه البحار والمحيطات وعند درجة حرارة لا تقل عن أربع درجات مئوية، فسبحان القائل: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} (القرقان:2). 

والخاصية الخامسة للماء، التي لا تقل أهمية عن سابقاتها، فهي ارتفاع حرارته النوعية؛ حيث يمتلك أعلى حرارة نوعية من بين جميع العناصر والمركبات الموجودة على الأرض، وقد تصل الحرارة النوعية للماء إلى مائة ضعف الحرارة النوعية لكثير من المعادن. والحرارة النوعية مقياس لكمية الطاقة التي تختزنها كمية محددة من المادة عندما ترتفع درجة حرارتها بمقدار درجة مئوية واحدة، فعندما يتم تسخين المواد، فإن كمية الطاقة التي تختزنها تتناسب مع كتلتها ومقدار الزيادة في درجة حرارتها، وكذلك حرارتها النوعية. وعندما تبرد هذه المواد، فإنها تشع جميع الطاقة التي اختزنتها إلى الجو المحيط بها، إذا ما هبطت درجة حرارتها إلى الدرجة نفسها، التي كانت عليها قبل تسخينها. إن الحرارة النوعية العالية للماء هي التي وفرت للكائنات الحية درجات الحرارة المناسبة لعيشها على سطح الأرض، فلولا وجود الماء بهذه الكميات الكبيرة على سطح الأرض، لهبطت درجة حرارة سطح الأرض إلى درجات متدنية جدا، بسبب تدني الحرارة النوعية للمواد المكونة للقشرة الأرضية. ولكن مياه المحيطات التي تغطي سبعين بالمائة من مساحة سطح الأرض، تقوم بامتصاص كميات كبيرة من الطاقة الشمسية خلال النهار، ومن ثم تقوم أثناء الليل بإشعاع هذه الحرارة إلى جو الأرض، لكي يحافظ على درجة حرارة سطح الأرض ضمن الحدود المسموح بها. 

والخاصية السادسة للماء فهي شفافيته للضوء، حيث أنه يسمح بمرور الضوء المنبعث من الشمس من خلاله بأقل فقد ممكن، وهذه خاصية بالغة الأهمية لدوام حياة الكائنات في بحار ومحيطات الأرض؛ فحياة جميع الكائنات البحرية تقوم على ما تنتجه الطحالب من مواد عضوية. وهذه الطحالب تقوم بتصنيع المواد العضوية من العناصر والمركبات الذائبة في الماء بوجود الطاقة الشمسية من خلال عملية التركيب الضوئي. ولو لم يكن الماء شفافا للضوء لما تمكنت أشعة الشمس من الوصول إلى الطحالب، التي تعيش في الطبقات العليا من مياه المحيطات، ولتوقفت عملية تصنيع المواد العضوية، التي تتغذى عليها جميع الكائنات البحرية. وتساعد شفافية الماء الكائنات الحية البحرية على رؤية الأشياء من حولها من خلال نظام الإبصار التي زودها الله بها، وتساعد كذلك الإنسان والحيوان على كشف وجود شوائب ضارة في الماء قبل أن تقوم بشربه.

والخاصية السابعة للماء فهي إمكانية تحوله إلى بخار الماء عند درجات حرارة أقل بكثير من درجة الغليان، وبكميات كبيرة من خلال عملية التبخر المعروفة. وهذه الخاصية تقوم عليها حياة جميع الكائنات الحية التي تعيش على الأرض، فبخار الماء المتكون على سطوح المحيطات، تحمله تيارات الحمل إلى طبقات الجو الباردة، فتحوله إلى غيوم تسوقها الرياح إلى اليابسة، فتسقط أمطارا، توفر الماء الذي يلزم لحياة الكائنات الحية البرية.

والخاصية الثامنة فهي أن درجة تجمده تقل عن الصفر المئوي في حالة وجود مواد ذائبة فيه، وهذه خاصية بالغة الأهمية لحياة الكائنات الحية؛ حيث أنها تتعرض في المناطق الباردة إلى درجات حرارة تقل عن الصفر في كثير من الأحيان، ولكن الماء في أجسام هذه الكائنات لا يتجمد بسبب المواد الذائبة فيه، ولو كان الحال غير ذلك لماتت الكائنات الحية بمجرد تعرضها لدرجات حرارة تقل عن الصفر لفترة قصيرة من الزمن.

والخاصية التاسعة فهي الخاصية الشعرية، والناتجة عن التوتر السطحي العالي للماء، وتساعد هذه الخاصية الماء على الارتفاع في الأنابيب الشعرية، دون الحاجة لقوة تضخه إلى أعلى، رغم وجود الجاذبية الأرضية، وبهذه الخاصية يصل الماء من جذور الأشجار إلى معظم أجزاءها رغم ارتفاعها الكبير عن سطح الأرض. بل إن هذه الخاصية هي التي تعمل على حفظ الماء في خلايا جميع الكائنات الحية بالنسبة نفسها، رغم تفاوت ارتفاع مواقعها في جسم الكائن، ولولا هذه الخاصية لتجمع الماء في الأجزاء السفلى من جسم الكائن بسبب فعل الجاذبية الأرضية.

والخاصية العاشرة فهي أن الماء لا طعم له ولا رائحة، ولو كان الحال غير هذا، لطغى طعمه ورائحته على طعم ورائحة جميع المواد التي يدخل في تركيبها، وخاصة تلك الموجودة في أجسام الكائنات الحية، كثمار وأزهار النباتات، ولحوم وألبان الحيوانات.

                                                                                                                                                                                                                     (يتبع)

* مادة المقال مستفادة من موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة