أنت غني ولست فقيرا

0 1154

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" (أخرجه مسلم). هذه لفتة عظيمة، وفكرة قويمة، وتوجيه سديد، ورأي رشيد.
إننا حينما ننظر إلى أحوال الناس، نجد أن أكثرهم قد أصيب بإحباط، وعاش في قلق، وتلظى في نكد، وبقي في شقاء؛ وما ذاك إلا بسبب نظرهم إلى من هم فوقهم، وتطلعهم إلى ما بأيدي غيرهم، وظنهم أن أولئك هم السعداء بما في أيديهم، وأنهم هم الأشقياء المعدمون، فينعكس ذلك في نفوسهم، ويقلل من شكرهم لربهم، ومعرفتهم بأنفسهم، ويؤثر في حياتهم، ويثبط من سيرهم.
وإن الإنسان يستطيع أن يعيش سعيدا، ويحيا غنيا، ولو لم يكن لديه شيء من مباهج الحياة وزينتها؛ فالسعادة سعادة القلب، والبهجة بهجة النفس، وتمام النعمة في الدين، وكمال المنة بالإيمان، والسرور بالحياة هو بحسن النظر إليها، وفن التعايش معها، وأن يرضى المرء بالقليل، ويشكر على الكثير، ولا يتيه فرحا بموجود، ولا يموت أسى على مفقود، وما من أحد إلا ولله عليه منة، وله عليه نعمة، قال سبحانه: {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} (الملك:23)، {ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين} (البلد:8-10).
فليعلم المرء، مهما كان مكانه، ومهما قل إمكانه، أن نعم الباري عليه عظيمة، ومنن المولى عليه جسيمة، قال تعالى: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم:34).

أليس من السعادة أن ينطلق المرء من بيته معافى في جسده، سليما في عقله، متمتعا بجوارحه، يسعد باستنشاق الهواء العليل، وشم الزهور العبقة، والروائح الطيبة؟ يسعد بالنظر إلى الشمس، وتأمل أشعتها الذهبية، بمنظر إشراقها، ومنظر غروبها؛ يسعد بانطلاق لسانه، وقدرته على الكلام، وتحدثه مع الآخرين، وإفصاحه عن حاجته، وإبانته عن مكنونه، وتعبيره عما يجيش في صدره؛ يسعد بسماع الأصوات الجميلة والأحاديث المختلفة؛ يلتقط ترانيم الأذان، ويتذوق حلاوة القرآن.
يسعد بقدميه السليمتين، ويديه القويتين، يسعد بحسن تفكيره، ورجاحة عقله، وروعة أدائه، يسعد بتأمل الطبيعة الغناء، والمناظر الساحرة، بالطيور المغردة، بالشمس المشرقة، بالبدر المنير، بالنجوم الساحرة، بالجبال الشاهقة، بالأنهار الجارية، بالمروج الخضراء، بالحيوانات العديدة، والمخلوقات المتنوعة.
يسعد بأولاده، ببناته، بإخوانه، بأخواته، بزوجته، بأمه، بأبيه بأقاربه، أليست هذه كلها سعادة، وجميعها سرورا؟!.

إنك تمتلك الملايين المملينة، ولكن لا تشعر بذلك، فإذا أردت أن تشعر به فانظر إلى بصرك، هل تبيعه بملايين الريالات؟ وهل تبيع ساقيك بملايين الريالات؟ وهل تبيع سمعك بملايين الريالات؟ وهل تبيع يديك بملايين الريالات؟ وهل تبيع أبناءك أو عائلتك بملايين الريالات؟ وهل تبيع جهازك الهضمي، أو لسانك، أو قلبك السليم بملايين الريالات؟ كلا، لن تفعل ذلك! إذا، أنت تملك ما يساوي ملايين الريالات، بل بلايين الريالات، فأنت غني ولست فقيرا، وأنت سعيد ولست شقيا.
لو أن المرء يتفكر فيما وهبه الله من النعم لما نغص حياته، وأتعب نفسه في التفكير البائس، والهم القاتل، بالنظر فيما عند الآخرين.
دخل رجل في تجارة فأفلست تجارته، وفشلت تجربته، وتحمل ديونا ثقيلة، وأعباء جسيمة، فضاقت به نفسه، وتنغص عيشه؛ وبينما هو يمشي في طريقه قد ملأ الأسى قلبه، وسكن الغم فؤاده، واستولى القلق على حياته، إذا به يرى رجلا مبتور الساقين يمضي على عربة يحركها بيديه وهو يعبر الشارع، فلما اقترب منه ناداه والابتسامة العريضة على شفتيه قائلا له: صباح الخير، إنه صباح جميل، ويوم سعيد أليس كذلك؟ يقول الرجل فخجلت من نفسي، واستحقرت موقفي، واستعدت همتي، وقلت: الحمد لله أن معي ساقين سليمتين، وأستطيع أن أمشي وأتنقل في حرية. إذا، لماذا الهم؟ ولماذا القلق؟ وأنا أمتلك هذه الثروة الكبيرة؟!.

فيجب على الإنسان- لكي يسعد بالحياة- أن يعدد أشياءه المباركة، وليس متاعبه، وأن ينظر إلى مكاسبه فيها، وليس إلى خسائره، بل حتى المصائب والكوارث يجب أن ينظر إلى الجانب الإيجابي فيها، فهي لا تخلو من ذلك، ولو لم يكن إلا أجر الصبر عليها، وثواب احتسابها، لكفى به عزاء، قال تعالى: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (لقمان:20).
كان -صلى الله عليه وسلم- يربط الحجارة على بطنه من الجوع، ويمكث الشهر والشهرين لا يوقد في بيته نار، ويخرجه الجوع من بيته أحيانا كثيرة، وقتل أصحابه، ومزق بعض أتباعه، وفقد كثيرا من أحبابه؛ حلت به الكوارث، ونزلت به المصائب، ولم يكن له مركب فاره، ولا قصر فاخر، ولا رصيد متضخم، ومع ذلك قال له الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى:11)، وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (المائدة:3). فأي نعمة تلك وقد نام على الحصير حتى أثر في جنبه؟ إن النعم إذا لا ينظر فيها إلى الجوانب المادية فقط؛ فهنالك نعم أجل، ومنن أكبر.
وقال -صلى الله عليه وسلم- حينما سئل عن كثرة قيامه حتى تفطرت قدماه، قال : "أفلا أكون عبدا شكورا" (البخاري ومسلم). ولقد عاش -صلى الله عليه وسلم- أسعد إنسان، أسعد نفسه، وأسعد من حوله، وهو لم يمتلك من حطام الدنيا شيئا؛ فليست المنة بالمال وحده والثراء أو الممتلكات، فالإيمان نعمة، بل أعظم نعمة، والحياة نعمة، والجوارح والعافية نعمة، والعقل نعمة، والتوفيق للعبادة نعمة.

روي أن عبدا عبد الله خمسمائة سنة، فيوقف يوم القيامة ويقول الله: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول: بل بعملي. فيقول الله: قايسوا عبدي بنعمتي عليه، وبعمله. فوجد أن نعمة البصر قد أحاطت بعبادته خمسمائة سنة، وبقية نعم الجسد، صارت فضلا عليه! فيقول: ادخلوا عبدي النار. فيجر إلى النار، فينادي: رب برحمتك أدخلني الجنة. فيقول: ردوه. فيدخله الله الجنة برحمته.
إن الإنسان المبتهج بالحياة يزيده الابتهاج بالحياة قوة، فيكون أقدر على الجد، وحسن الإنتاج، ومقابلة الصعاب. وما الحياة؟ وما قيمتها؟ وما الدنيا؟ وما أهميتها؟ لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء، فهي مرحلة عابرة، ورحلة قصيرة، لا تستحق أن ينغص الإنسان فيها نفسه بكثير التحسر على ما فات منها، والألم على مباهجها؛ حرامها عقاب، وحلالها حساب، وإن الأكثرين في الدنيا هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا -بالصدقة ووجوه الخير- عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم! {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} (يونس:58).

فيجب على المسلم أن لا يكثر الهموم على نفسه، فالدنيا لا تستحق ذلك، يجب أن يكون همه في الآخرة في يوم الوقوف على الله، في ظلمة القبر، في النفخ في الصور، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، هنالك "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط". (رواه مسلم).
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه". (رواه مسلم). نسأله تعالى أن يقنعنا بما آتانا، وأن يجعلنا من الشاكرين لنعمه، المعترفين بكرمه. في الحديث المروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (الترمذي وابن ماجة).
قال هارون الرشيد - رحمه الله – لرجل: عظني، فأراد الرجل أن يذكره بنعم الله عليه، وكان الرشيد قد أتي بماء ليشربه، وقد أمسكه بيده، فقال له: يا أمير المؤمنين! لو حبست عنك هذه الشربة ومنعت منها، أكنت تفديها بملكك؟ قال : نعم. قال : فلو شربتها، وحبس عنك إخراجها أكنت تفديها بملكك؟، قال: نعم. قال فما خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة؟.

نماذج مشرقة

وإن هنالك من النماذج العظيمة في تاريخنا ما يسلي النفس، ويسعد الخاطر، ويثير العجب من أناس أيقنوا حقيقة النعم التي وهبوها، والمنن التي منحوها، فكانوا مثالا في الشكر، ونماذج في الصبر.
عروة بن الزبير -رضي الله عنه- ‏ لما نصحه الأطباء ببتر قدمه فبترت نظر إليها وهي مبتورة فقال: الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية. ثم مات أحب أولاده إليه في نفس اليوم، فابتهل إلى ربه قائلا: اللهم لك الحمد على ما قضيت، كان لي أربعة أطراف فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، وأعطيتني أربعة أبناء فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فلك الشكر على ما أعطيت، والحمد على ما قضيت.
ومر أناس برجل يوم القادسية وقد قطعت يداه ورجلاه وهو يضحك، ويقول: {مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} (النساء:69).
ودخل رجل على رجل قد نزلت به بلوى عظيمة، ومرض شديد، فقال له :كيف تجدك؟ قال : أجد عافيته أكثر مما ابتلاني به، وأجد نعمه علي أكثر من أن أحصيها، ثم بكى، وقال : أسلي نفسي عن ألم ما بي بما وعد عليه سيدي أهل الصبر، من كمال الأجور في مشهد يوم عسير.

والقصص كثيرة، والعجائب عديدة عن أولئك العظماء الذين عرفوا حقيقة النعمة، وعظمة الصبر، وروعة الأجر، قال تعالى: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} (التكاثر:8)، وقد أردنا من هذا تنبيه كثير من الناس، الذين غفلوا عن شكر ربهم، ونغصوا حياتهم، وأقلقوا أنفسهم، وأرهقوا أفكارهم، وجلبوا الهموم والغموم إلى حياتهم، بكثرة نظرهم إلى ما عند الآخرين، وتطلعهم لما في أيدي غيرهم، واعتبارهم أنفسهم محرومين أشقياء، مع أن عندهم من النعم، ولديهم من الملكات والطاقات، ما يجعلهم يعيشون سعداء، ويعدون أنفسهم أغنياء.
و"ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس"؛ فاشكروا الله على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، قال سبحانه: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (إبراهيم:7)، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} (النحل:83).
اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمك، المعترفين بكرمك، المقدرين لجودك، السعداء بما أعطيتنا، الأغنياء بما وهبتنا، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة