- اسم الكاتب:د. إبراهيم بن محمد الحقيل
- التصنيف:أمراض القلوب
حين خلق الله تعالى عباده فإنه سبحانه ابتلاهم بدينه، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وفرض عليهم شرائعه، وامتدح من أطاعه ووعدهم الجنة، وذم من عصاه ووعدهم النار؛ فكان البشر قسمين: {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} (الأعراف:30) ومآلهم في الآخرة {فريق في الجنة وفريق في السعير} (الشورى:7).
ومن أعظم أسباب الضلال الذي يورد دار السعير: الإعراض عن الله تعالى، وعما بلغته رسله عليهم السلام من أمره ونهيه عز وجل، سواء كان إعراضا كليا، أم كان إعراضا جزئيا عن بعض أحكام الشريعة، ويسمى الإعراض في القرآن توليا {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين} (النحل:82).
ويسمى صدودا {رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} (النساء:61) ويسمى أفوكا {يؤفك عنه من أفك} (الذاريات:9) ويسمى إدبارا {ثم أدبر واستكبر} (المدثر:23) كما يسمى إعراضا {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا} (الشورى:48) والقرآن مليء بذكر هذه المفردات في الإخبار عن المعرضين وأحوالهم وأوصافهم وأقوالهم وعاقبتهم.
وأكثر المعرضين أعرضوا عن الله تعالى بعد قيام الحجة عليهم، وارتفاع الجهل عنهم، فهم يكذبون بآيات الله تعالى ويعرضون عن دينه {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين * فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} (الأنعام:4-5).
والآية هنا تشمل كل آية كونية تدل على توحيد الله تعالى، كما تشمل كل آية قرآنية تدل على إعجاز القرآن، وأنه من عند الله سبحانه، فلزم العمل بها ولكن أهل الكفر أعرضوا عنها {وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين} (الحجر:81).
ومن إخبار الله تعالى عنهم في إعراضهم عن الآيات الكونية قوله تعالى: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (يوسف:105).
ومن إخبار الله تعالى عنهم في إعراضهم عن الآيات القرآنية قوله تعالى: {بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} (المؤمنون:71) ويتكرر منهم الإعراض مع كل آية قرآنية يوعظون بها {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين} (الشعراء:5).
ولا عذر لهم عند الله تعالى بعد قيام الحجة عليهم؛ لأن الخلل فيهم وفي أسماعهم وأبصارهم وعقولهم حين لم تبصر أعينهم آيات الله تعالى الكونية، ولم تستمع آذانهم لآياته القرآنية، ولم تذعن قلوبهم له بالعبودية {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} (الأنفال:22-23).
إن الإعراض عن الله تعالى سبب للجهل به سبحانه؛ فإن من أعرض عن التفكر في الآيات الكونية، مع إعراضه عن تدبر الآيات القرآنية، ولم يسع في معرفة ربه عز وجل حرم معرفته تعالى ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، فكان سبب جهله بالله تعالى إعراضه عن آياته سبحانه {بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون} (الأنبياء:24) فأكثر أهل الباطل جهلوا الحق فأعرضوا عنه، وقليل من أهل الباطل عرفوا الحق فجحدوه؛ ولذا فإن المعرضين في تاريخ البشر أكثر من الجاحدين.
وفي القرآن إنذار من الله تعالى لهم بالعذاب في الدنيا، وبالحساب في الآخرة، ولكنهم يعرضون عن هذا الإنذار، والأمم التي عذبت قبلنا كان سبب عذابها إعراضها عن إنذار الله تعالى لها بواسطة رسله عليهم السلام، قال الله تعالى فيهم: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون} (الأحقاف:3) والله تعالى قد أنذر الناس عقوبته في الدنيا إن هم تمادوا في عصيانه، كما أنذرهم حسابه وعذابه في الآخرة على معاصيهم.
ويتمادى الناس في الغفلة حتى تقترب القيامة منهم وهم عن التفكر فيها معرضون، كما يدنو منهم الموت وهم عن تذكره أيضا معرضون {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} (الأنبياء:1).
وقد يقع الإعراض من العبد بعد الإيمان والإذعان والعلم بالله تعالى، وهذا أشد ما يكون قبحا، وأعظم ما يكون كفرا؛ إذ كيف يستبين الحق للعبد، ويذوق حلاوة الإيمان، ثم يفارقه إلى ظلمات الباطل والكفر والنفاق؟!
وسبب هذا الإعراض حظ من الدنيا يسيطر على العبد فيرديه؛ كما ذكر الله تعالى خبر المنسلخ عن آياته {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} (الأعراف:175-176).
ويكون الإعراض في بعض الأحيان عن أجزاء من الشريعة لا توافق هوى جماعة أو أفراد، فيعرضون عن حكم لا يريدونه، ويردون ما فيه من الأدلة إما ردا مباشرا، وإما بتأويلها وتحريف معانيها، وإما بضرب محكمها بمتشابهها.
وهذا سبب للخذلان والانتكاس والردى، وقد يؤدي بصاحبه إلى الانسلاخ من أحكام الشريعة فلا يقبل منها إلا ما وافق هواه، ويعرض عما لا يوافق هواه؛ كما حصل لعبد أعرض عن فريضة الزكاة؛ لأنها لم توافق خلق البخل والشح عنده، فكان ذلك سبب نفاقه {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} (التوبة:75-77).
ومن الناس من يقبل حكم الشريعة إن كان له، ويعرض عن حكمها إن كان عليه، وهذا أيضا باب إلى النفاق {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} (النور:48-50).
وتوافر النعم على العباد سبب للإعراض عن عزائم الشريعة، وتتبع رخصها؛ لأن الأوامر والنواهي مع توافر النعم ثقيلة على العباد؛ فهي تحد كثيرا من شهواتهم، وتضبط تمتعهم بما أنعم الله تعالى عليهم.
ولأن كثيرا من العباد يلجئون إلى الله تعالى في الشدائد، لكنهم ينسونه في الرخاء، وفي هذا النوع من الإعراض يقول الله تعالى: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا} (الإسراء:83) وفي آية أخرى: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} (فصلت:51).
وأشد جرما من هؤلاء وأعظم إثما من يعرضون عن الله تعالى حتى في الشدائد، والعذاب حري بأن ينزل بهم كما أصاب من قبلهم {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} (الأنعام:43-45).
نعوذ بالله تعالى من الاستدراك على دينه، أو الاعتراض على شيء من شريعته، ونسأله سبحانه أن يرزقنا الإذعان والقبول والامتثال لأمره ونهيه {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} (آل عمران:8).
أيها المسلمون: المتأمل لأحوال المعرضين عن الله تعالى يجدهم على أنواع:
فمنهم من يعرض بلسانه وقلبه عن معرفة الله تعالى وعبوديته، والنظر في آياته الكونية أو سماع آياته الشرعية، وهو حال أغلب الكفار من شتى الملل. وقليل منهم من يعلم آيات الله تعالى فيعرض مع علمه بها، وهذا هو الجحود الذي وقع فيه فرعون فأخبر الله تعالى عنه بقوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} (النمل:14).
ومنهم يظهر القبول لدين الله تعالى بلسانه لكنه يعترض عليه بقلبه، ويعرف ذلك في تصرفاته ولحن قوله، وهذا حال المنافقين قديما وحديثا، وكلما كثر اعتراض الشخص على أحكام الشريعة وردها وتأويلها كان ذلك دليلا على مرض قلبه بالنفاق؛ كما أخبر الله تعالى عن المنافقين في العهد النبوي وميزهم بكثرة اعتراضاتهم على أحكامه سبحانه وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ سورة التوبة عرف ذلك.
ومن الناس من يذعن بقلبه ولسانه للشريعة؛ لكنه يعترض على بعضها إما جهلا بأنه من الشريعة، أو لهوى في نفسه أو تقليدا لأهل الجهل والهوى، وهذا على خطر عظيم أن يصاب بفتنة أو عذاب عاجل؛ لقول الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور:63).
ومن الناس من يعرض عن المواعظ والتذكير، ويشمئز منها، ولا يحب الاستماع إليها، وهذا في قلبه نوع من الاعتراض على ذكر الله تعالى، وفيه شبه بالمشركين والمنافقين، ويخشى عليه من سوء العاقبة، وشؤم الخاتمة، وقد وصف الله تعالى المشركين بقوله سبحانه: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} (الزمر:45).
وأخبر سبحانه أنهم يفرون من المواعظ فرار الحمر الوحشية من رماتها أو من الأسد لئلا تفترسها {فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة} (المدثر:49-51).
والإعراض عن المواعظ والتذكير بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم سبب لإعراض الله تعالى عن العبد؛ كما في حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه" (رواه الشيخان).
وللحديث بقية، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.