عقوبة الإعراض عن الله تعالى

0 1972

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه، وبعد:
فإن أعظم سبب للسعادة في الدنيا والآخرة يكمن في الإقبال على الله تعالى، والاستسلام له سبحانه، والانقياد لشريعته، والقبول بأحكامه، والإذعان لأوامره؛ وأعظم سبب للشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة الإعراض عن الله تعالى، والاستنكاف عن عبادته، ورفض الخضوع لشريعته، والاعتراض على أحكامه وأوامره.
ومن قرأ القرآن وجده مليئا بالآيات المحذرة من الإعراض عن دين الله تعالى، والصدود عن سبيله، والاستكبار عن عبادته، والاعتراض على شيء من شريعته، وما يترتب على ذلك من عقوبات شديدة في الدنيا والآخرة على الأفراد والأمم.
فالإعراض عن الله تعالى وعن شريعته سبب لنزول العذاب في الدنيا، ورفع العافية، وإبدال النعم نقما، كما أخبر الله تعالى عن قوم سبأ وما هم فيه من نعيم الدنيا، ثم تحولت العافية عنهم، وأبدل حالهم من النعمة إلى النقمة بسبب إعراضهم: {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل} (سبأ:16).
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينذر كفار مكة، بسبب إعراضهم عن الله -تعالى- وعن دينه، ما أصاب الأمم التي قبلهم من العذاب العاجل: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} (فصلت:13)، وفي آية أخرى {وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} (هود:3)، وقال تعالى {فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما} (الفتح:16).

وأعظم عقوبة دنيوية تصيب أهل الإعراض عن الله تعالى أن يطمس على قلوبهم فلا تعي الذكر، ولا تبصر الحق، ولا يسير أصحابها فيما ينفعهم، بل يرتكسون في الكفر، ويرتمون في النفاق والاستكبار، ويجادلون بالباطل، وفي هذا يقول الله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا} (الكهف:57).
فتأملوا -عباد الله- كيف جعل الله تعالى أهل الإعراض أظلم عباده، فلا أحد أشد ظلما منهم، وأخبر -سبحانه- أن قلوبهم مغطاة فلا تفقه التذكير، وأن آذانهم صم عن سماعه، فلا يهتدون بالقرآن مهما دعوا إليه، ومهما ذكروا به؛ وما ذاك إلا عقوبة من الله تعالى لهم على إعراضهم عنه -سبحانه وتعالى-.
فيا لله العظيم! كم في هذه الآية من عبرة عظيمة، وحجة قاطعة على قدرة الله تعالى! فكم يرى الناس من صدود المعرضين عن التذكير، ونفورهم من مواعظ القرآن الكريم، وضيق صدورهم حين يذكرون بآياته، فلا يطيقون ذلك ولا يتحملونه، ولا يعون ما فيه ولا يفقهونه، ويعترضون عليه بكلام الخلق، ولولا الأكنة على قلوبهم لتأثروا به واعتبروا واتعظوا.

كم من صاحب منكر يجادل عن منكره بالباطل، ويسوغه بحجج يعلم أنها متهافتة، وإذا ذكر بآيات الله تعالى التي تثبت أن ما يدعو إليه منكر لا يرضاه الله تعالى؛ ضاق صدره بآيات الله تعالى، ولم يحتمل سماعها، وأعرض عما فيها، وركب هواه، ووالله! ما ذاك إلا إعراض عن الله تعالى وعن أحكامه، عوقب صاحبه بالخذلان والطغيان.
ومن عجيب أمر المعرضين أنهم قد يعلمون ذلك، ويدركون أنهم مصروفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال، ولكنهم لا يستطيعون اتباع الحق من الخذلان الذي حاق بهم؛ عقوبة لهم على إعراضهم: {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} (فصلت:4-5).
ومن عقوبة الله تعالى للمعرضين عنه سبحانه أنه يعرض عنهم، ويكلهم إلى أنفسهم الأمارة بالسوء، فتزين لهم سوء أعمالهم فتظنه حسنا وهو سيء، فتزداد ضلالا وإعراضا، {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (النساء:115).
ومعنى: نوله ما تولى، أي: نتركه وشأنه لقلة الاكتراث به، وفي قصة الرجل الذي مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يذكر الناس فأعرض عن التذكير، وولى مدبرا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: "وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه" (رواه الشيخان).
وأما عذاب الآخرة لأهل الإعراض عن الله تعالى وعن شريعته فشديد أليم، قد بينته آيات كثيرة في الكتاب العزيز: {وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا} (طه:99-101).
والذكر هنا هو القرآن، ومن أعرض عنه فقد أعرض عن الله -تعالى-، فحذار -عباد الله- من الإعراض عن القرآن تلاوة وحفظا، وتدبرا لآياته، وعملا بأحكامه؛ فإن المعرض عنه يحمل يوم القيامة وزرا، ومن يطيق ذلك؟!.
وأهل الإعراض متوعدون بانتقام الله تعالى منهم، وأتعس الناس من انتقم الله تعالى منه! {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} (السجدة:22).
وانتقامه -سبحانه- منهم يكون في الدنيا بما يصيبهم في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ويكون في الآخرة بالعذاب الشديد: {ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} (فصلت:16)، قال قتادة -رحمه الله تعالى-: إياكم والإعراض عن ذكر الله! فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة، وأعوز أشد العوز. وقال أبو القاسم القشيري -رحمه الله تعالى-: الاستقامة على الطريقة تقتضي إكمال النعمة، وإكثار الراحة، والإعراض عن الله يوجب تنغص العيش، ودوام العقوبة.

وقد يكون الإنسان من أهل الإعراض عن الله تعالى وهو لا يشعر بذلك؛ وذلك بأن يعرض عن شيء من الشريعة يخالف هواه، ويجادل فيه بالباطل ليدحض الحق، فيعاقب على ذلك بفساد قلبه، وارتكاسه في الإثم، ولربما انغمس في النفاق وهو لا يشعر، وقد حذر الله تعالى نبيه من ذلك فقال -سبحانه-: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون} (المائدة:49).
فحذر سبحانه من اتباع أهل الهوى في ترك شيء من الشريعة، أو تسويغ باطلهم، وبين تعالى أن من أعرض عن حكم من أحكام الشريعة عوقب على ذلك؛ ومن العقوبة التي تصيبهم بهذا الذنب الخذلان الذي يكون سببا في الصدود عن الحق ورفضه، وتسويغ الباطل وتزيينه للناس، والدعوة إليه؛ ليكون جرم صاحبه مضاعفا، وعذابه أشد، نسأل الله تعالى العافية والسلامة.
وكم من شخص أعرض عن شيء من أحكام الله تعالى موافقة لهواه أو هوى من يرى مصلحته الدنيوية عنده، فعوقب على ذلك بالنفاق، أو الردة عن الإسلام، حتى قاد ذلك بعضهم إلى القدح في الله تعالى، والإلحاد في أسمائه وصفاته، ومعاداة أوليائه، ومولاة أعدائه، والطعن في دينه، والاستهزاء بشريعته.
والمتتبع لأحوال هؤلاء المناكفين للشريعة يجد أن بدايات هذا الزيغ الذي أصابهم كان إعراضا عن بعض أحكام الله تعالى، تطور إلى اعتراض عليها، ومن ثم استماتة في ردها، مع اتباع المتشابه من النصوص، إلى أن وصل بهم إعراضهم إلى الزيغ والضلال، والاستهانة بالله تعالى، ورفض شريعته، {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} (البقرة:10)، {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} (الصف:5).

قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى-: ومبدأ البعد من الله هو المعاصي، والإعراض عن الله بالإقبال على الحظوظ العاجلة، والشهوات الحاضرة، لا على الوجه المشروع.
وقال الرازي -رحمه الله تعالى-: مطلع الخيرات، وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى، ومطلع الآفات، ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى، والبعد عن طاعته، والاجتناب عن خدمته.
ومن احتسب على أهل الإعراض في إعراضهم عن الله تعالى، ورفضهم لشريعته أو لبعض أحكامها، وأمرهم بتعظيمها والتزامها؛ سلقوه بألسنتهم، وبارزوه بأقلامهم، وأكثروا الطعن فيه، والافتراء عليه؛ وذلك أن الله تعالى يسلطهم على أوليائه جزاء اعتراضهم على شريعته، ومن عادى لله تعالى وليا فقد آذنه بالمحاربة. قال أبو تراب النخشبي -رحمه الله تعالى-: إذا ألف القلب الإعراض عن الله صحبه الوقيعة في أولياء الله.
ولكن، إلى أين يفرون من حساب الله تعالى وعذابه؟ وهل يغني عنهم شيئا من كانوا سببا في إعراضهم عن شريعة الله تعالى، واعتراضهم على أحكامه؟ كلا والله! سيتبرأ بعضهم من بعض، سيتبرأ التابع من المتبوع، وسيتبرأ المعرض عن أحكام الله تعالى من المزين له ذلك، والمسوغ له بالمتشابه. {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون} (الأنعام:157).
ومن العذاب العاجل ما يجدونه في صدورهم من ضيق بالشريعة وأحكامها، ومن ضنك يجعل عيشهم مرا ولو كانوا في الظاهر منعمين، {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه:124).
قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: رأيت سبب الهموم والغموم الإعراض عن الله -عز وجل-، والإقبال على الدنيا. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه؛ فإن من أحب شيئا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالا، ولا أنكد عيشا، ولا أتعب قلبا.
فالحذر الحذر من الإعراض عن الله تعالى، أو الاعتراض على شيء من أحكامه! فإن تبعة ذلك كبيرة، قد تصل بالإنسان إلى شقاء أبدي في الدنيا والآخرة.

نعوذ بالله تعالى من حال المعرضين عنه -سبحانه-، ونسأله تعالى دوام الإقبال عليه، والأنس به، والفرح بطاعته، إنه سميع مجيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير جدا
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة