- اسم الكاتب:التجاني بولعوالي
- التصنيف:تاريخ و حضارة
هناك أكثر من مؤشر على أن اللغة العربية بدأت تشهد منذ مطلع الألفية الجديدة إقبالا لافتا للنظر من لدن غير العرب وغير الناطقين بها، لا سيما في العديد من الدول الغربية والشرقية، كروسيا وتركيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية.
ويلاحظ أن الدواعي التي تقف وراء اختيار تعلم هذه اللغة تختلف من دولة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، بل ومن فرد إلى آخر، وهي تتوزع على ما هو علمي بحت، وما هو سياسي، وما هو ديني، وما هو اقتصادي.
تشير دراسة أمريكية قامت بها جمعية اللغة الحديثة MLA إلى أنه عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 مباشرة، تصاعدت وتيرة إقبال الأمريكيين على تعلم لغة الضاد، إذ بلغ عدد المسجلين لدراسة اللغة العربية في المعاهد والجامعات الأمريكية عام 2009 35 ألف طالبا، وهو تحول عميق وملحوظ حقق أعلى نسبة مئوية ما بين اللغات الأخرى، قدرت بما يربو عن 46%، وهذا العدد من المسجلين لتعلم اللغة العربية لا يستهان به، إذا ما تمت مقارنته بعدد المسجلين عام 1998 الذي وصل إلى 5500 طالبا، لينتقل عام 2002 إلى الرقم 10 آلاف و584 مسجلا، فتحتل بذلك اللغة العربية المرتبة الثامنة في الترتيب العام للغات الأكثر إقبالا عليها في المؤسسات العليا الأمريكية، حسب معطيات جمعية اللغة الحديثة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا ما ينطبق، بشكل أو بآخر، على حالة اللغة العربية في الصين، حيث يتزايد الإقبال على تعلمها ودراستها حسب جريدة الشرق الأوسط، التي كشفت عن أن اللغة العربية تشهد اهتماما منقطع النظير من قبل الكثير من الصينيين، وذلك باعتبارها تيسر التعامل التجاري مع السوق العربية الخصبة والواعدة للاستثمارات الصينية، حيث ارتفع حجم المعاملات التجارية الثنائية بين الصين والدول العربية إلى 110 مليار دولار أمريكي. هكذا فإن تعلم اللغة العربية صار محددا أساسيا لمثل هذه العلاقات الاقتصادية، مما يفتح آفاقا زاهرة أمام كل صيني متمكن من إتقان هذه اللغة، لا سيما وأن أي متخرج في هذا الحقل اللغوي ينتظره راتب شهري يتراوح ما بين 1200 و2000 دولار أمريكي، وهو أجر عال بكثير عن الأجور الحكومية في الصين.
ثم إن هذا الإقبال على تعلم اللغة العربية تعدى البعد الديني الدعوي إلى البعد التجاري الاقتصادي، خصوصا في المناطق التي تقطنها الأقليات الصينية المسلمة -إقليم سينكيانج وبعض المقاطعات الغربية والجنوبية-، وقد ورد على لسان ما شاو وو، رئيس معهد القوميات في لينشيا: "أن الإقبال على تعلم اللغة العربية في هيئات التدريب المهني الخاصة علامة على تحول تدريس اللغة العربية من التعليم المسجدي إلى التعليم المدرسي، وانتقال هدفه من الوفاء بمتطلبات المسلمين إلى تحقيق العائدات الاقتصادية، ونحن سعداء برؤية ذلك".
وهذا ما يسري أيضا أكثر على وضعية اللغة العربية في الدول الأوروبية، التي تستقر فيها أعداد غفيرة من المسلمين، كفرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا وغيرها. حيث تنتعش اللغة العربية بشكل ملحوظ؛ تعليما وتعلما، سواء لدى المواطنين من أصول عربية وإسلامية أم لدى المواطنين الأوروبيين والغربيين.
وما يسترعي النظر أن هذا الاهتمام باللغة العربية لا يقتصر على المؤسسات الإسلامية التقليدية فحسب، بقدر ما يتعداها إلى مختلف المؤسسات الأكاديمية والتعليمية والبحثية والثقافية والإعلامية الإسلامية والغربية على حد سواء، ومع أن الدوافع إلى تعلم اللغة العربية تتنوع بحسب أهداف كل فئة وحوافزها، إلا أن الدافع الأساس الذي يأتي في المقدمة، يتعلق بالحفاظ على الهوية الأصلية والتحصين الذاتي للأقليات المسلمة، ضد الغزو الفكري والتفسخ الأخلاقي والاكتساح الإعلامي للثقافة الغربية المهيمنة، التي تسعى إلى التهام الثقافات الهامشية وصهرها في بوتقتها باسم الحداثة والعولمة والاندماج.
على أساس هذه المؤشرات الإحصائية والواقعية، التي تثبت مدى الإقبال الكثيف على تعلم لغة الضاد خارج قواعدها الطبيعية، يبدو أن مقتضى هذه المعادلة الجديدة لا يستوعب إلا في نطاق السياق العام الذي تنتظم فيه، وهو سياق يتراوح بين الهيمنة والمقاومة، بين الولاء والتحدي، بين القبول والرفض، وبين الانخراط التلقائي في اقتصاد السوق والعولمة والثورة الرقمية من جهة والتمسك الشديد بالثقافة الأم والهوية الأصلية والخصوصية المحلية من جهة أخرى، لذلك لا يمكن فصل المسألة اللغوية عن هذه المعادلة، اعتبار بأنها أكثر المسائل الثقافية والاجتماعية استجابة لمتغيرات السياق وتطوراته.
وهذا ما ينطبق على اللغة العربية، التي رغم أزماتها الداخلية تمكنت من أن تسترعي انتباه أكثر من جهة أجنبية، إلا أن هذا الاسترعاء ليس موحدا، وإنما يتبلور بحسب المجال التداولي وقانون العرض والطلب والقابلية الثقافية والاجتماعية، فإذا كان الأمريكي يقبل على تعلم اللغة العربية بغرض فهم شخصية الإنسان العربي واستيعاب تعاليم الدين الإسلامي، ومن ثم صياغة استراتيجية سياسية وأمنية لمواجهة خطر الامتداد الإسلامي، فإن الصيني يفضل دراسة لغة الضاد تفاعلا مع قانون السوق والتجارة، لا سيما في زمن ما يطلق عليه مؤلفا كتاب فخ العولمة: "ديكتاتورية السوق والاقتصاد"، ليس عشقا للغة العربية في حد ذاتها، وإنما سعيا إلى الاستحواذ على الأسواق العربية الواعدة، عن طريق آلية التواصل اللغوي المباشر، التي تصل المصنع بالسوق، وتقرب المنتج من المستهلك، في حين أن نشوء القابلية لتعلم اللغة العربية لدى الأقليات العربية والمسلمة في أوروبا، مرجعه الجوهري إلى الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية الأصلية، واكتساب المناعة الذاتية اللازمة أمام الاكتساح الذي تمارسه الثقافة الغربية المهيمنة.
هكذا فإن من شأن هذه المعطيات أن تميط اللثام عن جوانب هامة من راهن اللغة العربية، لا سيما في الدول التي تستقر فيها جاليات عربية ومسلمة، أو الدول التي تربطها علاقات سياسية واقتصادية وطيدة بالعالم العربي، وذلك في زمن العولمة بصفة عامة والعولمة الثقافية بصفة خاصة، التي يتخذ منها العديد من الباحثين والمثقفين العرب والمسلمين مواقف سلبية رافضة، ما دام أنها تسعى إلى تغريب العالم أو أمركته، وإلغاء الخصوصيات الثقافية والإنسانية المحلية والجهوية، وصهرها في بوتقة الثقافة الغربية المهيمنة، وذلك بدعوى جعل الشيء عالميا وموحدا، بل وأكثر من ذلك فإن العولمة ما هي إلا استمرار للمرحلة السابقة التي هي الاستعمار، ولا تختلف عنها إلا من حيث الآليات المستحدثة التي توظفها لتنميط العالم وضبط أنساقه، كالنظام العالمي الجديد واقتصاد السوق وتكنولوجيا المعلوميات.
تحديات في وجه تعلم اللغة العربية وتعليمها، تتحدد أهمها كما يأتي:
* غياب الرؤية الموحدة بخصوص استعمال اللغة العربية، على صعيد المنطقة العربية أو خارجها، سواء على مستوى مناهج التدريس وطرائقه، أم فيما يتعلق بتوظيف التقنيات الرقمية الحديثة، أم فيما يرتبط بالتقعيد الأكاديمي الذي يختلف من دولة إلى أخرى ومن جامعة إلى أخرى.
* عدم تخصيص ميزانية كافية من قبل الدول العربية لتأهيل اللغة العربية وتطوير أدائها داخل المؤسسات التعليمية وفي وسائط الإعلام وعلى مستوى التواصل اليومي.
* عدم مواكبة اللغة العربية للمتغيرات التكنولوجية الجديدة قصد الاستفادة الفورية والشمولية منها، فهي تتمسك بالطابع التقليدي في التواصل والتكوين.
* تهميش اللغة العربية داخل المؤسسات الجامعية الغربية، وعدم اعتمادها في البحث العلمي، كما هو الشأن بالنسبة للغات الأوروبية الحية كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية وغيرها.
* تحجيم دور اللغة العربية في مجتمعات المعرفة وشبكات التواصل الدولي، أمام الاكتساح الشمولي الذي تمارسه اللغة الإنجليزية في مختلف مجالات التعليم والإعلام والتسويق والإنتاج.
من هذا المنطلق، يتضح أن اللغة العربية تجد نفسها اليوم أمام شتى التحديات المنهجية والتواصلية والتمويلية، في زمن القرية الكوكبية والعولمة الثقافية والتقارب الإلكتروني، وليس مرد ذلك إلى الطبيعة التسلطية للعولمة من خلال الأنماط اللغوية والثقافية الغربية فحسب، وإنما إلى انكماش القابلية لدى العرب لتأهيل اللغة العربية، وتنمية أدائها، وتطوير وسائلها ومناهجها، حتى تتمكن من مواكبة التحولات العالمية المتسارعة ومنافسة غيرها من اللغات العالمية الحية، كما كان الأمر في الماضي.