حوار ومساومة زعماء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم

0 1109

حاول المشركون إغراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمال والشرف والملك، لعله يرجع عن دعوته التي جاء بها، أو يتنازل عن بعض الحق الذي يدعو إليه، فلم يفلحوا، وثبت صلى الله عليه وسلم أمام إغراءاتهم ومساوماتهم، وقال لهم في حكمة ووضوح وثبات أنه لن يترك هذا الأمر الذي بعثه الله عز وجل به، ولا الدعوة إليه، وقد ظهر ذلك جليا في حواره وحديثه صلى الله عليه وسلم مع زعماء قريش .

ذكر ابن هشام ـ وابن كثير ـ في السيرة النبوية حوار زعماء قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم في محاولتهم مساومته وإيقافه عن تبليغه لدينه الذي بعثه الله عز وجل وأرسله به، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: "اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث (بن كلدة)، أخو بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم. قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك ـ أو كما قالوا له ـ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا (نجعلك سيدنا وزعيمنا)، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال صلى الله عليه وسلم".

انتقل زعماء قريش إلى نقطة أخرى في حديثهم وحوارهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسير عنهم هذه الجبال التي ضيقت عليهم، وأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، ويبسط لهم البلاد، ويحيى لهم الموتى ـ ولا سيما قصى بن كلاب ـ، ‏ قال ابن هشام: "قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى، حتى يحكم الله بيني وبينكم ..".
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا}(الإسراء 90: 93).
قال القرطبي: " قوله تعالى: "{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان والنضر بن الحارث، وأبي جهل وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف وأبي البختري، والوليد بن المغيرة وغيرهم. وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة، اجتمعوا - فيما ذكر ابن إسحاق وغيره - بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة..".
رد النبي صلى الله عليه وسلم على كلام زعماء قريش بأنه لم يبعث لكي يقوم بمعجزات من هذا القبيل، وإنما جاءهم رسولا ومبشرا ونذيرا، فقال صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر ابن كثير في تفسيره وابن هشام في السيرة النبوية ـ: "(ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)".

لقد تعددت وتنوعت أساليب المشركين في محاولتهم إيقاف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والقضاء عليها، ومن هذه الأساليب التي استخدموها مع النبي صلى الله عليه وسلم: الإغراء والترغيب والتهديد، والجدال والمفاوضات والمساومات، وطلب الآيات والمعجزات، إلا أنها باءت جميعها بالفشل .. وكان صلى الله عليه وسلم رغم عداوتهم وعنادهم، وجدالهم ومساوماتهم، يطمع في هدايتهم، ويخاطبهم ويجادلهم بحكمة ورفق، ويتلو عليهم ما أنزل عليه من كتاب الله عز وجل، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}(النحل: 125)، قال ابن كثير: "أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن، برفق ولين وحسن خطاب".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة