يا بني سَلِمةَ: دِيَارَكُم تُكْتَب آثَارُكُم

0 1001

بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة وبنائه للمسجد، الذي أصبح مكان التقاء المسلمين وتقوية الأواصر بينهم، ويلتقون فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتعلمون منه أمور دينهم، أراد بنو سلمة ـ وهم قبيلة من الأنصار ـ أن ينتقلوا من ديارهم التي كانت بعيدة في أطراف المدينة، حتى يكونوا قرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أن يدركوا الصلوات معه ويتلقوا من علمه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ترك ديارهم لذلك وقال لهم: (دياركم تكتب آثاركم). 

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة، دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم) رواه مسلم، قال النووي: "(دياركم تكتب آثاركم): "معناه الزموا دياركم، فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم، وخطاكم الكثيرة إلى المسجد". وفي رواية البخاري: (فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا)، أي بعد أن استقروا في ديارهم وعلموا أن خطاهم محسوبة لهم سروا وفرحوا بذلك، وندموا أن فكروا في التحول، وقالوا في أنفسهم أو للناس: لو أنا تحولنا ما كنا مسرورين بهذا التحول.
 
وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع بني سلمة ونهيهم عن ترك بيوتهم نزل قول الله تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}(يس:12)، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم}(يس:12)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن آثاركم تكتب فلا تنتقلوا) رواه الترمذي. وقال ابن حجر: "قال مجاهد: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} قال: خطاهم".

وفي هذا الموقف النبوي مع بني سلمة فوائد كثيرة، منها:

قال ابن حجر في "فتح الباري": "في الحديث أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات، وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد إلا لمن حصلت به منفعة أخرى أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل (يشق) على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه، فما أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل رجح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد أو يزيد عليه.. واستنبط منه بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد ولو كان بجنبه مسجد قريب، وإنما يتم ذلك إذا لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياؤه بذكر الله أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال كأن يكون إمامه مبتدعا".
وقال ابن عثيمين: "ففي هذا الحديث: دليل على أنه إذا مشى الإنسان إلى المسجد، فإنه لا يخطو خطوة إلا رفع له بها درجة.. وفي هذا الحديث: دليل على أنه نقل للإنسان شيء عن أحد، فإنه يتثبت قبل أن يحكم بالشيء، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم بني سلمة قبل أن يقول لهم شيئا، قال: (بلغني أنكم تريدون كذا وكذا، قالوا: نعم) فيؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان إذا نقل له شيء عن أحد أن يتثبت قبل أن يحكم بمقتضى الشيء الذي نقل له، حتى يكون إنسانا رزينا ثقيلا معتبرا، أما كونه يصدق بكل ما نقل، فإنه يفوته بذلك الشيء الكثير، ويحصل له ضرر، بل الإنسان ينبغي عليه أن يتثبت. وفي هذا الحديث أيضا: دليل على كثرة طرق الخيرات، وأن منها المشي إلى المساجد، وهو كما سبق مما يرفع الله به الدرجات، ويحط به الخطايا، فإن كثرة الخطايا إلى المساجد سبب لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، ورفعه الدرجات".

فائدة: لا يجوز للإنسان أن يتقصد ويتعمد المشقة عند أدائه لأي عبادة :

من الخطأ اعتقاد بعض الناس أن تقصد المشقة والتعب في العبادة يحصل به الأجر الكبير، مستدلين على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك (تعبك)) رواه الحاكم. فالمقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: (أجرك على قدر نصبك): أنه إذا كانت المشقة ملازمة للعبادة، بحيث لا يمكن القيام بالعبادة إلا مع تحمل هذه المشقة، فكلما زادت المشقة زاد معها الأجر والثواب ـ كالصيام مثلا ـ، قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (على قدر نصبك) أو قال: (نفقتك) هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة, والمراد النصب (التعب) الذي لا يذمه الشرع, وكذا النفقة".
وقال ابن تيمية: "قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (هلك المتنطعون) .. فكثيرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر".
فهذه القاعدة: "أن الأجر على قدر المشقة" ليست مطردة في كل شيء، قال الشاطبي: "إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض".

وأما استدلالهم بموقف النبي صلى الله عليه وسلم مع بني سلمة ونهيهم عن ترك بيوتهم لينتقلوا للقرب من المسجد وفي ذلك مشقة عليهم، وقوله لهم: (بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم) فالجواب عليه كما قال الشاطبي: "..الحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره فإنه صلى الله عليه وسلم: (كره أن تعرى المدينة (تخلو وتصير عراء) قبل ذلك)". وقال ابن حجر: "فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، وكأنه صلى الله عليه وسلم اقتصر في مخاطبتهم على التعليل المتعلق بهم لكونه أدعى لهم إلى الموافقة"، فحصول المشقة والبعد ليس مقصودا، لكن من كان بعيدا كتب له أجر ممشاه ..
 ومن ثم فلا يجوز للمسلم أن يتقصد ويتعمد المشقة عند أدائه لأي عبادة، ولا حجة لمن تعلق ببعض النصوص واستدل بها على تقصد المشقة في العبادات لزيادة الأجر والثواب، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت في هديه وسنته ما يمنع من تكلف المشقة والتعب، وينهى عن الغلو والتنطع في الدين، والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا) رواه البخاري. وعن أنس رضي الله عنه قال: (نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: إن الله لغني عن مشيها، مروها فلتركب) رواه الترمذي، ورأى صلى الله عليه وسلم رجلا يهادى بين اثنين، فسأل عنه؟ فقالوا: نذر أن يحج ماشيا، فقال: (إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليركب) رواه البخاري.

السيرة النبوية مليئة بالدروس والعبر، التي نحتاج إليها في ديننا ودنيانا، لتنير لنا طريقنا وحياتنا، فهي سيرة وحياة أعظم بشر وأفضل نبي صلوات الله وسلامه عليه، وهي تشتمل على أخلاقه وشمائله، ودلائل نبوته ومعجزاته، وجهاده وسلمه، وهديه في العبادة، وطريقته في التعامل مع الموافقين والمخالفين، والأصحاب والأعداء، والتربية والتعليم، والدعوة والإرشاد.. وهي كذلك سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة، الذي لا يصح عمل ولا عبادة إلا باتباعه، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(الأحزاب:21).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة