العقل عند الإنسان

0 1266

الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:

فقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير ممن خلق، خلقه فأحسن خلقه، وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته، هيئة وفطرة تجمع بين الطين والنفخة، هيأ له من التسخير ما يقوم به في وظيفة الاستخلاف والتعمير، {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الجاثية: 13).

وإن من أهم مهمات الاستخلاف والتعمير: إصلاح التفكير واستقامته، وضبط مساره في كل جوانب الحياة وميادينها، ومنزلة الإنسان وقوة تفكيره تظهر بقدر إعماله فكره، وحسن تصرفه في عقله، ومدى تحقيقه لما ينفعه في دنياه وآخرته.

العقل – حفظكم الله – هو أس الفضائل، وينبوع الآداب، هو للدين أصل، وللدنيا عماد، وليس أفضل من أن يهب الله عبده عقلا راجحا، وتفكيرا مستقيما.

العقل قوة وغريزة اختص الله بها الإنسان، وفضله بها على سائر مخلوقاته، العقل قوة مدركة تقوم بوظائف كبرى، من ربط الأسباب بمسبباتها، وإدراك الغائب من الشاهد، والكليات من الجزئيات، والبدهيات من النظريات، والمصالح من المفاسد، والمنافع من المضار، والمستحسن من المستقبح، وإدراك المقاصد وحسن العواقب.

العقل نور من الله يميز به الحق والباطل، والخطأ والصواب في الأقوال والأفعال والاعتقادات والعلوم والمعارف.

ومن اللطيف – معاشر الإخوة -: أن لفظ العقل لم يرد في القرآن الكريم، وإنما جاءت مشتقاته ومرادفاته، كقوله – عز شأنه -: {ما عقلوه} (البقرة: 75)، وقوله: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل} (الملك: 10)، وقوله – عز شأنه -: {وما يعقلها إلا العالمون} (العنكبوت: 43)، وقوله – تبارك وتعالى -: {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} (النحل: 67)، وقوله: {ولعلكم تعقلون} (يوسف: 2)، {أفلا تعقلون} (الأنعام: 32)، {أفلا يعقلون} (يس: 68).

كما جاء من المرادفات: {أولو الألباب} (البقرة: 269)، وأولو النهى، {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} (طه: 54)، {لآيات لأولي الألباب} (آل عمران: 190)، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} (ق: 37)، {هل في ذلك قسم لذي حجر} (الفجر: 5).

ومما يلفت النظر – عباد الله -: أن القرآن الكريم ربط ربطا واضحا بين الأذن وحاسة السمع، والعين وحاسة البصر، والرجل وقدرة المشي، واليد وقوة البطش، في مثل قوله – عز شأنه -: {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} (الأعراف: 195).

أما العقل فلم يربط بشيء من ذلك؛ بل ورد باسم وظيفته المدركة، وليس باسمه أو آلته. وكأن في هذا دلالة وإشارة إلى أن العقل يمثل مجموع أدوات الإدراك من سمع وبصر وفؤاد وقلب وغيرها، فالعقل مرتبط بالإنسان كله، ومنتظم لحواسه كلها، فهو ملكة وظيفية يرتبط وجودها وعملها بوجود أدواتها، وعلى قدر حسن توظيف الإنسان لهذه الأدوات يكون تعقله في الأمور، ونضجه في الإدراك، مما يتبين معه ارتباط العقل بالأحداث والتصرفات.

فالنظر العقلي عمل حي متحرك له أبعاده ومدلولاته التي ترتبط بالأشخاص، والأزمان، والأحداث، وكل حركات الحياة والأحياء.

عباد الله: وقد جعل الله إعمال العقل وحسن استخدامه بيد الإنسان، فمن شاء فليتقدم، ومن شاء فليتأخر، ولا يكون إعمال العقل إلا في التفكير والتذكر، والاعتبار والتدبر، والنظر والتبصر، والعلم والفقه، وكل ذلك جاء الأمر به في كتاب الله – عز وجل – فيه آيات كثيرة، كقوله – عز شأنه -: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} (الأنفال: 21)، وقوله – عز شأنه -: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (الملك: 10)، وقال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق: 37).

أيها المسلمون: وإذا كان ذلك كذلك، فإن العقل في الإسلام هو مناط التكليف، ومحل الفهم، وبه استنباط الأحكام الشرعية وبيان مراد الشارع، وبه حسن التصرف في أمور الدين والدنيا.

والعقل مكلف تكليفا صريحا بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وإدراك العلاقات أسبابا ومسببات، واكتساب العلوم، والنظر في المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، والعدل والظلم، كل ذلك من أجل أن يستفيد من التسخير للقيام بمهمة التعمير.

والقرآن الكريم والسنة المطهرة مليئان بالدلائل البرهانية، والأقيسة العقلية، وضرب الأمثال، وحسن الجدال، كل ذلك حتى يتحرر العقل من تلبيسات الخرافة، وأساطير الأولين، وتخرصات الكهنة والمنجمين، والسحرة والمشعوذين، والطيرة والمتشائمين، والتقليد الأعمى لما عليه الآباء والأسلاف؛ لينطلق إلى آفاق رحبة واسعة من العقيدة الصافية، والعمل الصالح، والعطاء المنتج، قال – سبحانه -: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (النمل: 64)، وقال – عز شأنه -: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا} (سبأ: 46)، وقال – عز شأنه -: {فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم} (عبس:25- 32)، وقال – عز شأنه -: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} (ق: 6- 8).

معاشر المسلمين: وإن من أعظم مخزون أمتنا الثقافي، وقضاياها العليا: ارتباط العقل بالنقل، وترتيب العلاقة بين المعقول والمنقول، وإن فحول علماء الأمة وراسخيها، ويأتي في مقدمهم شيخ الإسلام بن تيمية – قدس الله سره، ورحم الله أهل العلم أجمعين – كلهم قرروا ودققوا وبرهنوا على موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، فلا تعارض بين عقل صريح ونقل صحيح، فقضايا العقل الصريح خلق الله، وما جاء في النقل الصحيح شرع الله، فلا تناقض ولا تعارض بين خلق الله وشرع الله، {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل: 88).

فالحق لا يتناقض، بل إن الأمر كلما كان أفسد في الشرع كان أفسد في العقل، فتتطابق الدلائل القرآنية على البراهين العقلية، ويتصادق موجب الشرع والمنقول مع النظر والمعقول، والمؤمن كلما كان إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب، كان إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان أقرب، وكلما كان عنهم أبعد، كان عن ذلك كله أبعد.

أيها المسلمون: والعالم المعاصر بعلومه وفنونه ومكتشفاته ومخترعاته، ما أصاب من خير ومنافع فمن إعمال العقل، وما أصاب من سوء ومفاسد فمن حرية العبث والهوى، والبعد عما جاء به المرسلون من الحق والهدى، ولا يجوز الخلط بين الأمرين، وبنو آدم بالعلم والعقل يرتقون إلى مصاف الملائكة الأطهار، كما قال – عز شأنه -: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران: 18).

وبالشهوات والضلالات يكونون أضل من الأنعام، كما في قوله – عز شأنه -: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} (الفرقان: 43- 44)، وقال – عز شأنه -: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} (النجم: 29، 30)، ويقول – جل وعلا -: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} (غافر: 83).

إن الإنسان مسؤول عن حفظه عقله، والله سائله عما استرعاه في نظره وفكره، وحسن استخدامه لذلك كله، شأنه في ذلك شأن كل النعم من عمر وصحة، ومال وبنين، وحفظ حواس، وسلامة أجهزة، قال تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} (الإسراء: 36).

ومن أجل هذا فإن ذا العقل السليم والمنهج المستقيم يربأ بنفسه عن الدنايا، وينأى عن المحقرات، ولا يميل مع الهوى، ولا يخضع للعادات وما عليه الآباء والأسلاف، ويتجنب العناد والمكابرة والمراء؛ {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} (يونس: 101).
 

ومع مكانة العقل وكريم مقامه، فإنه آلة ووسيلة للفهم، له حدوده التي ليس له أن يتجاوزها، فإن خرج عن حدوده وقع في الضلال والانحراف، ودخل في المعني بقوله – عز شأنه -: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف: 179).

العقل بمجرده لا يصلح مرجعا ولا ميزانا، فعقول البشر متفاوتة في قوتها وضعفها وإدراكها واستيعابها، وإن من الخطل أن يخلط من يخلط، فيجعل عقله هو المرجع، فما يستنكره هواه أو رأيه ورغباته، يحسب أن العقل هو الذي استنكره وأباه، وما قبله فعنده أن العقل هو الذي قبله وارتضاه، وقد علم أن العقول مختلفة منازلها، والحظوظ متفاوتة إدراكاتها.

وتأملوا – رحمكم الله – ما ورد في الخبر: "تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله؛ فإنكم لن تقدروا قدره".

قال أهل العلم: "وما ذلك إلا لأن العقل البشري لا يدرك ما كان خارج الصور التي يحسها ويراها، والمدركات التي يعيشها، أما الغيب وما وراء المحسوس فلا يدركه العقل إلا بالخبر الصادق، وإبراهيم – عليه السلام – أراه الله ملكوت السماوات والأرض؛ ليكون من الموقنين، وأراه كيف يحيي الموتى ليطمئن قلبه، فحقائق الغيب لا تدرك إلا بالخبر الصحيح من الصادق المصدوق.

ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، فالعقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، دال على صدق الرسالة، والعقل شرط في معرفة العلوم وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، ولكنه ليس مستقلا بنفسه، بل هو متصل بنور الكتاب والسنة، {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} (الشورى: 52)، وإذا انفرد العقل بنفسه لم يبصر، وإذا استقل بذاته عجز عن الإدراك الصحيح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*خطبة جمعة(بتصرف يسير).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة