مثل مُحقّرات الذّنوب

0 1691

عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.

غريب الحديث:

محقرات الذنوب: جمع محقرة، وهي الشيء الصغير الذي لا يأبه به، والمراد صغار الذنوب التي يحتقرها فاعلها "الصغائر".

معنى الحديث:

يحذرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من التهاون في صغائر الذنوب ومحقراتها أو الغفلة عنها، فإن في إهمالها الهلاك والبوار؛ والمقصود بمحقرات الذنوب: "ما لا يبالي المرء به من الذنوب" كما قال السندي في شرحه على ابن ماجه، وعرفها المناوي بقوله: "محقرات الذنوب أي صغارها؛ لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها".

قال الإمام الغزالي: "صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض، حتى تفوت أهل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة"؛ لأن المحقرات إذا كثرت صارت كبارا، فأودت بصاحبها وأهلكته -عياذا بالله من ذلك-.

وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا) رواه النسائي وابن ماجه، ورواه أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان والألباني، فدل ذلك على خطرها وعظيم ضررها.

وقفات مع المثل:

- يشبه النبي صلى الله عليه وسلم صغائر الذنوب التي يحتقرها فاعلها بالأعواد الصغيرة التي لا قيمة لها بمفردها، لكنها تكون ذات تأثير عظيم إذا اجتمعت مع غيرها، فإن الأعواد الصغيرة إذا اجتمعت مع غيرها كانت سببا في إنضاج الطعام، رغم أنها لا يمكن أن تكون سببا لذلك الإنضاج بمفردها (كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم)، فكذلك صغائر الذنوب التي تجتمع مع مثيلاتها فتكون سببا في إهلاك صاحبها يوم القيامة (وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه).

- سبب التحذير من الصغائر: قال المناوي في شرحه المثل المضروب في الحديث: "يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تكفر أهلكت، ولم يذكر الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول وشدة تحرزهم عنها، فأنذرهم مما قد لا يكترثون به"، وقال الإمام الغزالي: "تصير الصغيرة كبيرة بأسباب، منها: الاستصغار والإصرار، فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله، وكلما استصغره عظم عند الله، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثيره به، واستصغاره يصدر عن الألفة به، وذلك يوجب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة، والمحذور تسويده بالخطيئة".

- بيان معنى الكبائر والصغائر: يقول الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} (النساء:31)، ويقول تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} (النجم:32)، فالكبيرة هي ما ترتب عليها حد في الدنيا، أو توعد بالنار أو اللعنة أو الغضب، وألحق بعضهم نفي الإيمان، أو ما قيل فيه: ليس منا، أو برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الصغيرة فهي ما دون الحد؛ وقيل: هي كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، وقيل: هي ما ليس فيه حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة.

- الأثر السيئ للمعاصي (صغيرها وكبيرها): ينبغي الحذر من الذنوب والمعاصي وعدم التهاون في شيء منها، فإن الصغائر إذا كثرت ولم تكفر، أو أصر عليها صاحبها صارت سببا في هلاكه وبواره، يقول الإمام ابن القيم: "وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله، فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور...، ومنها حرمان الرزق...، ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام، فلو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حريا بتركها).

- ونختم بما ذكره الإمام الغزالي في تأثير الاستهانة بالصغائر، حيث قال: "تواتر الصغائر عظيم التأثير في سواد القلب، وهو كتواتر قطرات الماء على الحجر، فإنه يحدث فيه حفرة لا محالة، مع لين الماء وصلابة الحجر"، نسأل الله تعالى أن يجنبنا صغار الذنوب وكبارها، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة