- اسم الكاتب:د / عبد العزيز بن محمد السدحان
- التصنيف:أحوال القلوب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإن الآيات الدالة على عظمة الله ووحدانيته لا تعد ولا تحصى.
فواعجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهـد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ويقول الشاعر:
تأمل سطور الكائنات فإنهــا *** من الملك الأعلى إليك رسائــل
وقد خط فيها لو تأملت خطها *** ألا كل شيء ما خلا الله باطــل
وهذه الآيات تتنوع كيفا وكما، ولونا ووقتا ومكانا، {وفي الأرض آيات للموقنين} (الذاريات:20)، قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
"أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد والجبال، والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم، والحركات والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه…" إلى آخر كلامه يرحمه الله.
ولما كان خلق الإنسان عجيبا في تركيبه وصنعه، تكرر ذكره في القرآن، ليتفكر العباد في ذلك، ويقلبوا النظر في عظيم صنع الله، {يا أيها الأنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك} (الانفطار:6-8)، {لقد خلقنا الأنسان في أحسن تقويم} (التين:4)، {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} (القيامة:4)، {ولقد خلقنا الأنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون:13-14).
وجاء في السنة: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين" إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تضمنت وصف خلق الإنسان وهيئته، وهو من الآيات الدالة على عظمة الله تعالى ووحدانيته.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في أثناء كلامه عن خلق الإنسان:
"وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل عنه، معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره، قال الله تعالى: {قتل الأنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره} (عبس:17-22)، فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر النطفة والعلقة والمضغة والتراب، لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب وإليه جرى ذلك الحديث…" ثم شرع رحمه الله يبين بوصف دقيق مراحل تقلب النطفة في الرحم إلى أن أصبحت علقة ثم مضغة بعد ذلك، ثم قال: "وكيف صورها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم. والمثانة والأمعاء، كل واحد منهما له قدر يخصه ومنفعة تخصه. ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن وعمادا له، وكيف قدرها ربها وبارؤها وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير، والطويل والقصير، والمنحني والمستدير، والدقيق والعريض، والمصمت والمجوف، وكيف ركب بعضها في بعض، فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الأنثى، ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط، وكيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها.." إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
ولما كانت نعمة الجوارح في الإنسان، من أعظم النعم وأجلها كان لا بد أن نقف معها جميعا وقفات للتأمل والمحاسبة، فيقال:
الوقفة الأولى:
إن بديع صنع هذه الجوارح دليل على عظمة صانعها وحسن تدبيره وتقديره وإحكامه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، لكن الشاهد من المقال: أن يكون نظر الإنسان إلى ذلك نظر تفكر واعتبار، لا نظرا صوريا مجردا عن الحكمة البالغة والغاية السامية، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فرق بين نظر الطبيب والطبائعي في هذه الأمور، فنظرهما فيها مقصور على النظر في حفظ الصحة ودفع السقم، فهو ينظر فيها من هذه الجهة فقط، وبين نظر المؤمن العارف فيها، فهو ينظر فيها من أجل دلالتها على خالقها وبارئها وما له فيها من الحكم البالغة والنعم السابغة، والآلاء التي دعا العباد إلى شكرها وذكرها" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
الوقفة الثانية:
إن هذه الجوارح من أعظم نعم الله على الإنسان فبها يبصر وبها يسمع، وبها يحس ويتكلم، وبها يعطي ويمشي، إلى غير ذلك من منافعها ووظائفها، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } (النحل: 18)، ومن المعلوم أن الواجب تجاه النعم أن تشكر فلا تكفر، وأن تذكر فلا تنسى، وكما قيل: "إن النعم بشكرها تقر وبكفرها تفر". وقيل أيضا: "الشكر قيد النعم".
وخير من ذلك القيل قول الله العظيم: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (إبراهيم:7)، بل إن شكره قد يكون أعظم من تلك النعمة مهما بلغت؛ لأن في ذلك تمام الانقياد والاعتراف بفضل الله على عبده. أخرج ابن ماجه وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ". وفي لفظ عند الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة".
الوقفة الثالثة:
أن يزداد اعتبار الإنسان واتعاظه بهذه الجوارح إذا رأى أو سمع عمن فقدها، فإن تذكر العبد للنعم غالبا يزداد في حالتين اثنين، إذا فقدها أو رأى من فقدها، ولذا قال بعض السلف: "إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك فأغمض عينيك" وهي كلمة بليغة. وقس عليها ما سواها من الجوارح، فكم يجد الأعمى من مشقة ونصب في الوصول إلى مراده وحاجته، والأبكم لا يستطيع أن يعبر عن مراده إلا إشارة أو كتابة، ومن فقد قدميه يزحف زحفا ولا يصل إلى بغيته إلا بشق الأنفس، وكثير من الناس يمشي بسلام ويقوم بسلام، ويقعد بسلام، ويبصر ويسمع ويتلكم بسلام، فلله الحمد من قبل ومن بعد.
الوقفة الرابعة:
إن الإنسان لا يألو جهدا في وقاية جوارحه من الأسقام والأوجاع، فهو ينفق على سلامتها وطلب استطبابها سرا وجهرا دون عد أو تأخير، وهذا من فعل الأسباب المشروعة، لكن التناقض أن ترى ذلك الحرص وذلك الإنفاق على سلامة جوارحه يتلاشى أو يكاد عند المحافظة عليها من الموبقات والآثام، فترى الكثير من الناس يهرعون إلى المصحات ودور العلاج عند حدوث أدنى شعور بالمرض الحسي، أما المرض المعنوي فلا يفطن للوقوع فيه، فضلا عن كف الجوارح عنه ومحاسبتها عند الوقوع فيه، وقد جاء في الحديث: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". (أخرجه الإمام مسلم). لذا فالواجب أن يحرص على كف جوارحه عن الآثام كحرصه على سلامتها أو أشد حرصا.
الوقفة الخامسة:
وهي متعلقة بالتي قبلها، وذلك أن الجوارح قد تكون سببا في هلاك العبد وخذلانه، إذا أهمل شأنها ولم يتعاهد رعايتها وسقايتها، ولذا فإن الاعتناء بصحتها وسلامتها الظاهرة، دون ردعها وزجرها عن أحوال المعاصي والرذائل، دليل على فساد قلب صاحبها، وسلامة الجوارح من فساد القلب لا تغني صاحبها شيئا، بل إن فساد القلب دليل على فساد الجوارح فسادا حقيقيا، بغض النظر عن صورتها الظاهرة.قال صلى الله عليه وسلم: "ألا في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". (البخاري).
ومما يؤكد أن الجوارح قد تكون سببا في هلاك صاحبها، ما ذكره الله في كتابه، من شهادتها على أصحابها: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} (يـس:65)، {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون} (فصلت:19-22).
الوقفة السادسة والأخيرة:
إن الشرع الحكيم هذب أمر الجوارح وبين مسارها الذي ينبغي أن تسير فيه، وقالبها الذي ينبغي أن تصب فيه، حدد ذلك كله في وصف دقيق؛ لكي لا يكون للعبد حجة على ربه في قليل أو كثير، ولا صغير أو كبير.فمن ذلك مثلا تهذيبه لجارحة اللسان: {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون } ( الانفطار :12 ) { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق:18)، {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} (النحل: 116).
ومن تهذيب الإسلام لجارحة العين {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}، {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} (النور: 31).
وأما تهذيب الإسلام لجارحة السمع: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص:55). {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما} (الفرقان:72)، إلى غير ذلك مما تكاثرت النصوص بشأنه.
وبكل حال، فقد هذب الشرع أمر الجوارح أحسن تهذيب، وعالجها أكمل علاج، وذلك واضح في نصوص الكتاب والسنة، والمرغبة في فعل الخير، والمرهبة من فعل الشر. فمن أهمل ذلك، ولم يلق له بالا؛ فقد باء بإثمه وأوبق نسه. اللهم متعنا بأسماعنا ومتعنا بأبصارنا، متعنا بجميع جوارحنا أبدا ما أبقيتنا، اللهم اجعل أعمال جوارحنا شاهدة لنا لا علينا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.