- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:مواقف نبوية
من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم التي تحلى بها خلق الرحمة والرأفة بالغير، تلكم الرحمة التي شملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وإذا كان الناس ـ عامة ـ بحاجة إلى الرحمة والرعاية، فإن الذي زل ووقع في المعصية بحاجة خاصة أن نأخذ بيده لا أن نتركه يقع على الأرض، أو نهيل عليه التراب، أو ندعو عليه باللعنة فنكون عونا للشيطان عليه، بل وربما ترتد هذه اللعنة وتعود على من لعن، إن لم يكن الملعون مستحقا لهذا اللعن، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان لذلك أهلا، وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود.
قال المناوي في فيض القدير: "اللعن: طرد عن رحمة الله، فمن طرد ما هو أهل لرحمته عن رحمته فهو بالطرد والإبعاد عنها أحق وأجدر، ومحصول الحديث التحذير من لعن من لا يستوجب اللعنة والوعيد عليه بأن يرجع اللعن إليه {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}(آل عمران:13)". وقال ابن عثيمين: "وهذا وعيد شديد على من لعن من ليس أهلا للعن، فإن اللعنة تتحول في السماء والأرض واليمين والشمال ثم ترجع في النهاية إلى قائلها إذا لم يكن الملعون أهلا لها".
والسيرة النبوية فيها من المواقف الكثير التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن لعن أحد، وإن كان هذا الملعون عاصيا، ومن هذه المواقف موقفه مع النعيمان بن عمرو رضي الله عنه الذي كان مشهورا بالمزاح خاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عنه ابن سعد في الطبقات: "شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وموقف النبي صلى الله عليه وسلم مع النعيمان كان في نهي الصحابة عن لعنه رغم شربه للخمر وإقامة الحد عليه. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب (الخمر)، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) روه البخاري. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم لمن لعنه: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله).
قال ابن حجر: "في هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب .. وهو محمول هنا على أنه (النعيمان) كان لا يكرهه (يلقب حمارا)، أو أنه ذكر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يسمى بعبد الله، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نسب إلى البلادة فأطلق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك". وقال ابن تيمية: "هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن ـ عموما ـ شارب الخمر، ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين... لجواز تخلف المقتضي عن المقتضى لمعارض راجح، إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة". وقال ابن عثيمين: "الفرق بين لعن المعين، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم، فالأول ممنوع، والثاني جائز، فإذا رأيت من آوى محدثا، فلا تقل: لعنك الله، بل قل: لعن الله من آوى محدثا، على سبيل العموم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله: (اللهم العن فلانا، وفلانا، وفلانا)، نهي عن ذلك بقوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}(آل عمران: 128)، فالمعين ليس لك أن تلعنه، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة، ثم تاب، فتاب الله عليه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف، قال رجل: ما له؟! أخزاه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) رواه البخاري. وفي رواية لأبي داود وصححها الألباني قال صلى الله عليه وسلم: (.. ولكن قولوا: اللهم اغفر له اللهم ارحمه).
قال ابن حجر في فتح الباري: " قوله: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب) وهذا الرجل يحتمل أن يفسر بعبد الله الذي كان يلقب حمارا، ويحتمل أن يفسر بابن النعيمان والأول أقرب .. وذلك الرجل (الذي قال: ما له أخزاه الله؟!) هو عمر بن الخطاب إن كانت القضية متحدة مع حديث عمر في قصة حمار"، وقال ابن حجر: "ووجه عونهم الشيطان بذلك أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية أن يحصل له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي، فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان .. ويستفاد من ذلك منع الدعاء على العاصي بالإبعاد عن رحمة الله، كاللعن... وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له، وفيه: أن لا تنافي بين ارتكاب النهي، وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب، لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية، بل نفي كماله".
لقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة من اللعن، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء) رواه الترمذي. قال الطيبي: "(ولا اللعان) أي الذي يكثر لعن الناس بما يبعدهم من رحمة ربهم، إما صريحا كأن يقول: لعنة الله على فلان، أو كناية كغضبه عليه، أو أدخله النار". وقال الصنعاني: "واللعان اسم فاعل للمبالغة بزنة فعال أي كثير اللعن، ومفهوم الزيادة غير مراد، فإن اللعن محرم قليله وكثيره". وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار) رواه الترمذي، قال ابن عثيمين: "يعني لا يلعن بعضكم بعضا بلعنة الله، فيقول لصاحبه لعنك الله، ولا بغضبه فيقول غضب الله عليك، ولا بالنار فيقول أدخلك الله النار، كل هذا حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد يقال لمن لا يستحقه".
هذه المواقف والأحاديث النبوية تؤكد على خطورة أمر الدعاء باللعنة على أحد ولو كان مرتكبا لكبيرة من الكبائر، وذلك حتى يظل المجتمع الإسلامي متماسكا برباط المودة والحب، ويكون أفراده كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وفي ذلك منهج نبوي تربوي قويم في كيفية التعامل مع أصحاب المعاصي بالرفق والرحمة بهم، وعدم الدعاء عليهم، مع أمرهم بالمعروف ودعوتهم للطاعة والخير، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال عن نفسه وبعثته ودعوته: (إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم .