- اسم الكاتب:د / عبد المحسن القاسم
- التصنيف:أحوال القلوب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره ، وبعد:
فإن أحسن ما أنفقت فيه الأنفاس هو التفكر في آيات الله وعجائب صنعه، والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته.
وآيات الرب هي دلائله وبراهينه التي بها يعرف العباد ربهم بأسمائه وصفاته وأفعاله وتوحيده، والتفكر في مخلوقات الله عبادة وهداية، وهو مبدأ الخيرات ومفتاحها، فبه يعظم العبد ربه ويزداد إيمانا ويقينا، ويفتح بصيرة القلب وينبهه من غفلته، ويورثه حياة وتدبرا ومحبة لله وتذكرا.
التفكر في آيات الله من أفضل أعمال القلوب وأنفعها، يدعو إلى العمل ويلزم صاحبه الاستسلام لله.
قال سفيان بن عيينة – رحمه الله -: "التفكر مفتاح الرحمة، ألا ترى أن المرء يتفكر فيتوب؟!".
وهو من خير ما يوعظ به العباد، قال – سبحانه -: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا} (سبأ: 46).
وإذا المرء كانت له فكرة، ففي كل شيء له عبرة، والقرآن العظيم مملوء بدعاء الخلق إلى التفكر في الآيات والنظر في المخلوقات، قال – عز وجل -: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} (الأعراف: 185).
وفي مخلوقات الله عبر وعظات أمر الله بالتفكر فيها، فقال: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} (يونس: 101).
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: "والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه".
والعقول التامة الذكية هي التي تدرك الأشياء بحقائقها، والله أثنى على المتفكرين في خلقه وأنهم من أولي الألباب، قال – سبحانه -: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} (آل عمران: 190، 191).
وذم الله المعرضين عن التفكر، فقال: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (يوسف: 105).
ومن عقوبات الله: صرف آياته عن المستكبرين، قال – سبحانه -: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} (الأعراف: 146).
قال الحسن البصري – رحمه الله -: "أمنعهم التفكر فيها".
والشمس من آيات الله اليومية العظيمة، قال – سبحانه -: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} (فصلت: 37).
جعلها الله للكون ضياء وهي في السماء سراج وهاج، تجري بلا صوت مع كبر حجمها بحساب دقيق في فلك واسع إلى أجل مسمى، {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} (يس: 40).
سخرها الله لعباده، فبطلوعها وغروبها قيام الليل والنهار، ولولا وجودها لبطل أمر هذا العالم، ففيها من الحكم والمصالح ما يعجز الخلق عن الإحاطة به، جعلها الله دليلا على وحدانيته وألوهيته، فقال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} (العنكبوت: 61).
وهي آية لأرباب العقول، قال تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} (النحل: 12).
ودعا العباد إلى النظر في عجيب تسخيرها، فقال: {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر} (لقمان: 29).
وبها يحسب الخلق أوقاتهم ويعرفون معالمهم، قال – سبحانه -: {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} (الأنعام: 96).
وخلق الله الظل وجعل الشمس عليه دليلا.
قال البغوي – رحمه الله -: "ومعنى دلالتها عليه: أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها".
علق الله على مسيرها كثيرا من العبادات والأحكام؛ ففي الصلاة قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} (الإسراء: 78)، وعن أفضل أوقات الذكر قال: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} (ق: 39).
وفي الصيام يفطر الصائم عند غروبها.، ومن أمارة ليلة القدر: "تطلع الشمس صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها" (رواه مسلم).
وفي أيام التشريق بعد زوالها يرمي الحاج الجمرات.
وزمن انقضاء عبادة التوبة ينقضي بطلوع الشمس من مغربها؛ قال – عليه الصلاة والسلام -: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" (رواه مسلم).
وبصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها رتب الله عليها ثوابا عظيما؛ قال – عليه الصلاة والسلام -: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس – أي: صلاة الفجر -، وقبل غروبها – أي: صلاة العصر – فافعلوا" (رواه البخاري).
وخسوفها تخويف من الله لعباده؛ قال – عليه الصلاة والسلام -: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم كسوفا فاذكروا الله حتى ينجليا" (رواه مسلم).
ولعظيم خلقها وكثرة منافعها أقسم الله بها، فقال: {والشمس وضحاها} (الشمس: 1).
ومع هذه العظمة، فالله هو الذي يسيرها وهي تسبح له، قال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} (الحج: 18).
وكل يوم بعد غروبها تسجد لله، قال – عليه الصلاة والسلام -: "يا أبا ذر! أتدري أين تغرب الشمس؟"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} (يس: 38)" {رواه البخاري}.
وهي مخلوقة فلا تعبد، ومن الشرك السجود لها، قال – سبحانه -: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} (فصلت: 37).
وغروبها أسلوب اتخذها الأنبياء من أساليب الدعوة إلى الله؛ احتج إبراهيم – عليه السلام – على ألوهية الله وبطلان عبادته بمغيبها، قال تعالى: {فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} (الأنعام: 78، 79).
وقد فتن بها بعض الخلق فعبدوها من دون الله، قال الهدهد لسليمان – عليه السلام – حاكيا عن ملكة سبأ وقومها: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} (النمل: 24).
والمسلم لا يتحرى بصلاته عند طلوع الشمس أو غروبها؛ فإنها حينئذ يسجد لها بعض الكفار.
ولسجود بعض الناس لها ينتصب الشيطان لها عند طلوعها وعند غروبها، يوهم نفسه أنهم يسجدون له، ولسد ذريعة عبادتها نهي المسلم أن يتحرى صلاة قبل طلوع الشمس أو غروبها، قال – عليه الصلاة والسلام -: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بقرني الشيطان" (رواه مسلم).
وعند زوال الشمس كل يوم موعظة للمؤمن؛ فإن النار تسجر – أي: تملأ وتوقد – في هذا الوقت، فتكره الصلاة حينها، قال – عليه الصلاة والسلام -: "فإن حينئذ تسجر جهنم" (رواه مسلم).
وطلوع الشمس من غير مجراها أمارة على قرب الساعة وإذن من الله بخراب العالم، قال – عليه الصلاة والسلام -: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا جميعا، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها" (متفق عليه).
وأول الآيات خروجا: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى إثرها قريبا.
وفي المحشر يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل.
قال سليم بن عامر – رضي الله عنه -: "فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟".
قال – عليه الصلاة والسلام -: "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما" (رواه مسلم).
وسبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، جمعهم محبة الله وتعظيمه، ثم ينادي الرب فيقول: "من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، فيطرح بهم في نار جهنم، وذلك حين تكور الشمس فيذهب نورها، ويرمى بها في الجحيم".
قال – سبحانه -: {إذا الشمس كورت} (التكوير: 1).
قال ابن كثير – رحمه الله -: "معنى {كورت}: جمع بعضها إلى بعض ثم لفت فرمي بها، وإذا فعل لها ذلك ذهب ضوؤها".
قال – عليه الصلاة والسلام -: "الشمس والقمر مكوران يوم القيامة" (رواه البخاري).
وفي الجنة لا شمس ولا زمهرير، فهي منورة بنور الله، وأعظم نعيم أهل الجنة رؤية الله تعالى، فيرونه – سبحانه – كما يرى أهل الدنيا الشمس، في وسط النهار ليس دونها سحاب.
قال الصحابة – رضي الله عنهم -: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟"، قالوا: لا يا رسول الله، قال: "فإنكم ترونه كذلك" (متفق عليه).
في شدة الحر عظة وعبرة
اقتضت حكمة الله أن جعل للشمس ارتفاعا وانخفاضا ينتج عنه الحر والقر، وفي حر الصيف عظة للمؤمنين، فشدته من فيح جهنم، قال – عليه الصلاة والسلام -: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربي! أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير" (متفق عليه).
والدنيا مشوبة بالألم والنعيم؛ فألمها يذكر بألم النار، ونعيمها يذكر بنعيم الجنة، واختلاف أحوالها من حر وبرد، وليل ونهار، يدل على انقضائها وزوالها.
والمؤمن لا يقطعه عن الله شيء؛ فلا يمنعه الحر عن صلاة، وصوم، وبر، وخير، والله ذم القائلين: {لا تنفروا في الحر} (التوبة: 81)، وتوعدهم بقوله: {قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون}.
وعجبا لمن اتقى حر النار، كيف لا يتقي نار الجحيم؟
وبعد .. أيها المسلمون:
فجميع المخلوقات من الذرة إلى العرش دالة على الله، والكون جميعه ألسنة ناطقة بوحدانيته، والنظر النافع ما كان بالبصائر لا بالأبصار فحسب، والمسلم يعمل عقله وفكره لمحاسبة نفسه وإصلاح قلبه.
فاذكروا الله وعظموه، وأقبلوا عليه بالطاعة ووحدوه، واحذروا الغفلة والإعراض وسبحوه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين} (لقمان: 11).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير جدا