- اسم الكاتب:د / ناصر بن محمد الغامدي
- التصنيف:أحوال القلوب
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال صلى الله عليه وسلم: "قل: آمنت بالله، ثم استقم".
الاستقامة كلمة جامعة، تأخذ بمجامع الدين والدنيا، وتتحقق بها معالي الأمور، وأعلى الدرجات والأجور، وبها يكمل الإيمان، ويضمن الأمن يوم البعث والنشور، وتعم الخيرات والبركات، ويسعد الأفراد والمجتمعات، إنها خصلة من أعظم خصال السائرين إلى الله تعالى، وأجل مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ينال المرء بها الكرامات، ويصل إلى أعلى المقامات، ويعيش برد اليقين، ويحوز على مرضاة رب العالمين.
إنها اتباع الدين القويم بفعل الطاعات واجتناب المحرمات، ولزوم الصراط المستقيم برعاية حد الوسط في كل أمر من أمور الحياة، والقيام بين يدي الله بما أمر، والالتزام بالصدق في القول والعمل، والوفاء بكل المواثيق والعهود، فالإسلام إيمان بالله وحده دون سواه، ثم استقامة على منهج الله وشرعه من غير تغيير أو تبديل أو تقصير؛ على حد قول الحق سبحانه: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} (الأحقاف:13-14).
قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: لم يشركوا بالله شيئا، ولم يلتفتوا إلى إله غيره، ثم استقاموا على أن الله ربهم. ويقول الحسن البصري -رحمه الله-: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته. ويقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب. يريد بذلك أن المستقيمين يلتزمون بالاستقامة دائما في جميع أحوالهم وأوقاتهم وليس وقتا دون وقت؛ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.
وأصحاب الاستقامة جمعوا بين أصلي الكمال في الإسلام: الإيمان بالله تعالى، والاستقامة على ذلك، فالإيمان كمال في القلب بمعرفة الحق والسير عليه، معرفة بمقام الربوبية والألوهية، معرفة بالله تعالى ربا حكيما، وإلها مدبرا، معظما في أمره ونهيه، قد عمرت قلوبهم بخوفه ومراقبته، وامتلأت نفوسهم خشية وإجلالا، ومهابة ومحبة، وتوكلا ورجاء، وإنابة ودعاء، أخلصوا لله في القصد والإرادة، ونبذوا الشرك كله، وتبرؤوا من التعلق بغير الله ربهم، ثم استقاموا على ذلك، دون تفريط أو إفراط، فإذا تمكن ذلك من العبد ظهر في سلوكه طمأنينة في النفس، ورقة في القلب، وقرب من الرب -سبحانه وتعالى-.
سئل الصديق -رضي الله عنه- عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئا. يريد: الاستقامة على محض التوحيد والإيمان. وقال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان.
أيها المسلمون: بالاستقامة يجد المسلم حلاوة الإيمان، وطمأنينة القلب، وراحة النفس والبال؛ {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} (الزمر:22)، {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} (الأنعام:122).
وما أجمل الاستقامة على العمل الصالح، والتوبة والإنابة، والازدياد من الباقيات الصالحات! وما أعظمها حين تكون بعد الطاعة! فهذه حال المؤمن الصادق في إيمانه، الذي لا يغتر بما قدم من عمل، ولا يركن إلا إلى رحمة الله تعالى وفضله؛ لأنه يعلم أن عمله في جنب معاصيه وغفلته عن الله تعالى قليل، وأنه مهما عمل في جنب نعم الله عليه وفضله وإحسانه وستره فلن يوفي ذلك كله بعض حقه، وأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين؛ { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون:57-61).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: "لن ينجي أحدا منكم عمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل، فسددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا"؛ ولأجل هذا فقد أرشد النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- أمته بقوله: "استقيموا ولن تحصوا" (رواه مسلم)، وبقوله –صلى الله عليه وسلم-: "سددوا وقاربوا" (متفق عليه). والسداد هو حقيقة الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد؛ وأعظم من ذلك وأجل قول الحق تعالى: {فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين} (فصلت من الآية:6). وهو توجيه إلهي كريم لجبر ما قد يحصل من ضعف بشري، وقصور إنساني.
لقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام -رضي الله عنهم- بالاستقامة، وهو صفوة الخلق، وهم أفضل الأمة، قال سبحانه: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير (112) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} (هود:112-113). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما أنزل على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية. وعن الحسن قال: لما أنزلت هذه الآية شمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- للعبادة، فما رئي ضاحكا، وقال لأصحابه حين أسرع إليه الشيب: "شيبتني هود وأخواتها"، يعني قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير}".
ولقد كان المصطفى –صلى الله عليه وسلم- قرآنا يمشي على الأرض؛ تقول عائشة -رضي الله عنها- حين سئلت عن خلقه –صلى الله عليه وسلم-: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم:4)؟! (رواه أحمد). وكان أكثر دعائه –صلى الله عليه وسلم-: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" (رواه أحمد والترمذي وحسنه).
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: خط لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خطا، ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبل (متفرقة) على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام:153). (رواه أحمد والدارمي والحاكم بإسناد صحيح).
وهذه السبل التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل واحد منها شيطان يدعو إليه من شياطين الجن والإنس، وما أكثرهم في هذا الزمان! الذين يدعون إلى مخالفة صراط الله المستقيم بكل وسيلة، ويزينون الابتعاد عنه بكل طريقة، يدعون إلى الطرق المنحرفة، والسبل الملتوية، وهؤلاء كلهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، والنار حفت بالشهوات، وما أكثر من يستجيب لهم من ضعاف الإيمان!.
لكن المسلم المستقيم على أمر الله تعالى لا يأبه بهم، ولا يركن إليهم، ولا يستجيب لهم، بل يتبع أمر الله ورسوله، ويحكمهما في جميع أموره، ويتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعض عليهما بالنواجذ في زمن الشهوات والشبهات، فيصلح حين يفسد الناس، ويصلح ما أفسد الناس، ويقبض على الجمر حين يتذرع الناس بالشهوات والمغريات؛ حينها تعظم الاستقامة أجرا وتسمو قدرا.
وقد صح عند الترمذي من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"، وروى مسلم في صحيحه عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، وعن تميم الداري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر". (رواه أحمد).
إن الاستقامة على دين الله تعالى ثبات ورجولة، وانتصار وفوز في معركة بين الطاعات وبين الأهواء والرغبات والشهوات، ولذلك استحق الذين استقاموا أن تتنزل عليهم الملائكة في الحياة الدنيا؛ لتطرد عنهم الخوف والحزن، وتبشرهم بالجنة، ويعلنوا وقوفهم إلى جانبهم في الدنيا والآخرة، {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم} (فصلت:30-32).
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن الاستقامة منزلة شاقة تحتاج النفس معها إلى المراقبة والملاحظة والأطر على الحق والعدل، والبعد عن الهوى والمجاوزة والطغيان، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
ومدار الاستقامة في الدين على أمرين عظيمين هما: حفظ القلب ، وحفظ اللسان، فمتى استقاما استقامت سائر الأعضاء، وصلح الإنسان في سلوكه وحركاته وسكناته، ومتى اعوجا وفسدا فسد الإنسان وضلت أعضاؤه جميعا، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب"، وعند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه".
إن الاستقامة على منهج الله ليست أمرا محالا، ولا أمنية وادعاء ،ولا رهبانية مبتدعة كما يتوهمه بعض الناس، ولكنها استقامة على الأمر بالامتثال، وعلى النهي بالاجتناب، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا".
إن الاستقامة الحقة -عباد الله- هي سلوك طريق أهل السنة والجماعة، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أهل العقيدة الصافية، والمنهج السليم، أتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله، ومفارقة أهل الباطل، ومجانبة أهل الأهواء والبدع والشهوات؛ روى الترمذي بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة"، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاستقامة وأن يثبتنا على دينه حتى نلقاه وهو تعالى راض عنا، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.