مؤامرة قريش لقتل النبي قبل الهجرة النبوية

0 957

ضاق المشركون في مكة بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته للدين الجديد الذي جاءهم به، ووجدوا أنفسهم قد فشلوا في كل محاولاتهم للقضاء عليه، إذ لم تنفع معه وسائل الترهيب والترغيب، كما فشلت أساليبهم في الإيذاء والتعذيب، ورأوا بأعينهم انتشار الإسلام في مكة، وعلموا بما تم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة المنورة من البيعة على النصرة والإيمان، فأزعجتهم تلك الأخبار، وتواعدوا فيما بينهم على أن يلتقوا في دار الندوة، وقد عزموا على اتخاذ قرار حاسم بشأن النبي صلى الله عليه وسلم. وانتهت جلستهم ومشاوراتهم على قرار بقتله صلى الله عليه وسلم، على أن يتولى القيام بذلك المنكر العظيم فتية من القبائل جميعا، ليتفرق دمه بين القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلهم أخذا بثأرهم، فيرضوا بالدية. وفي الليلة التي حددوها جمعوا شبابا من قريش من قبائل شتى لتنفيذ مؤامرتهم، وحاصروا ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وسيوفهم في أيديهم، يترقبون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.

ولم تكن قريش تعرف أن الله عز وجل أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة المنورة، ومن ثم كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج مهاجرا من وسط هذا الحصار وهذه المؤامرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه أن ينام في مكانه، وقال له مطمئنا ـ كما ذكر ابن هشام في السيرة النبوية، وابن سيد الناس في عيون الأثر وغيرهما ـ: (نم على فراشي وتسجى (تغطى) ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص (يصل) إليك شيء تكرهه منهم)"، وأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس، فامتثل علي رضي الله عنه لأمره، ونام في مكانه وضرب بذلك أروع أمثلة التضحية والفداء.

وخرج رسول الله وهو يعلم مكان المتربصين به وما جاءوا من أجله، فلم يروه، وأخذ صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب فجعلها على رؤوسهم، وقد أنزل الله تعالى عليه بعد قدومه المدينة المنورة قوله سبحانه: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}(الأنفال:30)، قال السعدي: "{إذ يمكر بك الذين كفروا} حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه، وإما أن يقتلوه فيستريحوا ـ بزعمهم ـ من شره، وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم. فكل أبدى من هذه الآراء رأيا رآه، فاتفق رأيهم على رأي: رآه شريرهم أبو جهل لعنه الله، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفا صارما، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد، ليتفرق دمه في القبائل. فيرضى بنو هاشم ثم بديته، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش، فترصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه. فجاءه الوحي من السماء، وخرج عليهم، فذر على رءوسهم التراب وخرج، وأعمى الله أبصارهم عنه، حتى إذا استبطؤوه جاءهم آت وقال: خيبكم الله، قد خرج محمد وذر على رءوسكم التراب، فنفض كل منهم التراب عن رأسه، ومنع الله رسوله منهم، وأذن له في الهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها، وأيده الله بأصحابه المهاجرين والأنصار، ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة، وقهر أهلها، فأذعنوا له وصاروا تحت حكمه، بعد أن خرج مستخفيا منهم، خائفا على نفسه. سبحان اللطيف بعبده الذي لا يغالبه مغالب".

وقد ذكر ابن هشام في السيرة النبوية، وابن سيد الناس في عيون الأثر، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة، وابن كثير في تفسيره، ما دار من حوار بين المشركين في هذه المؤامرة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحي، قالوا: أجل، ادخل، فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل!، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، قال فصرخ عدو الله الشيخ النجدي، فقال: والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه، حتى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا، قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فانه إذا خرج لن يضركم ما صنع، وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه، واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا، قال: فقالأبو جهل ـ لعنه الله ـ: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما (قاطعا)، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل (الدية) واسترحنا، وقطعنا عنا أذاه، قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره، قال: فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال، يذكر نعمه عليه، وبلاءه عنده: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}(الأنفال:30)".
وكانت هذه الواقعة في العام الثالث عشر من البعثة النبوية، إذ أن الهجرة النبوية كانت في السنة الثالثة عشرة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين) رواه البخاري.

من دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وخصوصياته: عصمة بدنه الشريف من القتل، والأمثلة من سيرته وحياته التي تدل على ذلك كثيرة، ومنها هذه المؤامرة التي دبرها زعماء قريش في دار الندوة قبل هجرته إلى المدينة المنورة، قال الماوردي: "فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: عصمته من أعدائه، وهم الجم الغفير، والعدد الكثير، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلب لنفيه، وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شزرا، وترتد عنه أيديهم ذعرا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليما، لم يكلم (يجرح) في نفس ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: {والله يعصمك من الناس}(المائدة: 67) فعصمه منهم".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة