بعثني مُعَلِّماً مُيَسِّرا

0 865

من مهمات وغايات بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم تعليم أمته ودلالتهم على الخير، قال الله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(الجمعة:2). قال السعدي: "{ويعلمهم الكتاب والحكمة} أي: علم القرآن وعلم السنة، المشتمل ذلك علوم الأولين والآخرين، فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين، وأكمل الخلق أخلاقا، وأحسنهم هديا وسمتا، اهتدوا بأنفسهم، وهدوا غيرهم، فصاروا أئمة المهتدين، وهداة المؤمنين". وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا (مشقا ومعسرا)، ولكن بعثني معلما ميسرا) رواه مسلم

والأحاديث والمواقف النبوية الدالة على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالعلم وبيان فضله وحث المسلمين عليه كثيرة، فعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) رواه البخاري، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ولا شك أن هذا الفضل للعلم والمتعلمين يشمل عامة المسلمين، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، إذ الخطاب يشمل الجميع، ولذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص فئة دون أخرى بتعليمه وإرشاداته، بل كان حرصه على تعليمه المسلمين ممتدا يشملهم جميعا، ومع حرصه على تعليمهم كان أرفق الناس بهم، وهذا ما نوه به القرآن الكريم عند الإشارة إلى أخلاقه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}(آل عمران: 159). ووصف معاوية بن الحكم رضي الله عنه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه رضي الله عنهم مشيرا إلى رفقه وحسن تعليمه بقوله: "بأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه".

والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليمه للمسلمين ـ رجالا ونساء وصغارا ـ أمور دينهم، ومن ذلك :

تعليم الرجال :

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه وتوجيههم بوجه عام، وعلى حسب الموقف والحدث، وكان يفعل ذلك بصورة جماعية وبصورة فردية، ففي كثير من المواقف التعليمية من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه نقرأ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا مع أصحابه)، (بينما كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم)، فهذه نماذج وصور للتعليم الجماعي. ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لهم عن ماء البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه الترمذي. وأما التعليم الفردي فنماذجه أيضا كثيرة، ومن ذلك ما ورد عن غير واحد من أصحابه رضوان الله عليهم بقول الواحد منهم: "أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومن ذلك أيضا قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه) رواه البخاري. وقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله ..) رواه البخاري. وعن أبي رفاعة رضي الله عنه قال: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قال: قلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه، ولا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي. فأتي بكرسي، حسبت قوائمه حديدا، قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها) رواه مسلم. قال النووي: "فيه استحباب تلطف السائل في عبارته وسؤاله العالم، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالمسلمين وشفقته عليهم وخفض جناحه لهم، وفيه المبادرة إلى جواب المستفتي ..".

تعليم النساء :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (شهدت (حضرت) مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله تعالى، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى وأتى النساء فوعظهن وذكرهن) رواه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ـ ولم تعرفه ـ، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) رواه البخاري. قال العيني: "فيه ما كان عليه الصلاة والسلام من التواضع والرفق بالجاهل، وترك مؤاخذة المصاب، وقبول اعتذاره". والمرأة في سيرة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم لها مكانة عظيمة، ومخلوق له قدره وكرامته، فالنساء شقائق الرجال، وقد أحاطها صلى الله عليه وسلم بالمزيد من الاهتمام والتكريم، وأوصى بها خيرا في كثير من أحاديثه، ومن مظاهر عنايته بها اهتمامه بتعليمها أمور دينها بضوابطه الشرعية.
 
تعليم الصغار والأطفال :
من المسئولية الملقاة على الأبوين تجاه أولادهم الصغار: تعليمهم الخير، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه لرجل: "أدب ابنك فإنك مسؤول عن ولدك ماذا أدبته وماذا علمته؟ وإنه لمسؤول عن برك وطواعيته لك".
والناظر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يرى أنه كان مع الصغار أبا حنونا، ومعلما ومربيا، ويجد في سيرته الشريفة معينا لا ينضب من المواقف والوصايا التي تبين مدى اهتمامه صلوات الله وسلامه عليه بتعليم الصغار ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وحثه الآباء والأمهات على ذلك. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي. وعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاما في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت طعمتي بعد (طريقة أكلي بعد ذلك)) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه أحمد. قال ابن قدامة: "قال القاضي: يجب على ولي الصبي أن يعلمه الطهارة والصلاة إذا بلغ سبع سنين، ويأمره بها، ويؤدبه عليها إذا بلغ عشر سنين". وقال الشيخ محمد السفاريني الحنبلي: "ويجب عليه أيضا أن يعلمه ما يجب عليه علمه، أو يقيم له من يعلمه ذلك".
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم من بنت صغيرة من بنات الأنصار قولا مخالفا للتوحيد، بأن نسبت إليه أنه يعلم ما في المستقبل، علمها ما ينبغي لها قوله، ومنعها من إعادة كلامها، فعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني وجويريات (بنات صغار للأنصار) يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين (من الشعر الذي لا مغالاة فيه)) رواه البخاري. قال ابن حجر: "إنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء (التجاوز في المدح)، حيث أطلقت علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى كما قال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}(النمل:65)".
 
استمر النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كلها يوجه المسلمين ويرشدهم إلى الخير، ويعلمهم أحكام الإسلام وشريعته، ويحثهم على العلم وتعليم الناس الخير، بحكمة ورفق، ويكفي شرفا وفضلا لمعلمي الناس الخير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير) رواه الترمذي وصححه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا (مشقا ومعسرا)، ولكن بعثني معلما ميسرا) رواه مسلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة