الخطباءُ وأفكارُ المنبر

0 1020

البحث عن فكرة لخطبة الجمعة من التحديات التي تواجه كل خطيب يرجو ما عند الله؛ لأن الخطبة المؤثرة الباهرة تحتوي على عنصرين مهمين هما: الفكرة والبيان ويزينهما الأداء الخطابي المتقن.

وإذا ما تخلفت الفكرة فالخطبة مجرد كلام لا يؤثر طويلا، وقد تكون الفكرة حاضرة لكن ينقصها البيان العذب والكلمات الفخمة، وكم من حق ضاع بسوء التعبير وكم من باطل سرى بطلاوة الكلام وحلو الحديث.

ولخطبة الجمعة مكان سني في تاريخنا، وأثر بهي على المجتمع المسلم، حتى شرق بها المنافقون على اختلافهم، وحاكوا لها الأكفان بدعواتهم المشبوهة لتوحيد الخطبة أو تحييدها، أو جعلها نشرة محلية لا يأبه لها أحد، إضافة إلى ما يتعرض له الخطباء ـ في كثير من بلاد المسلمين ـ من رقابة غليظة، ومحاسبة دقيقة من عدة جهات في عصر يزعم كثير من أهله أنه زمن حرية الرأي وتعدد وجهات النظر.

وقد كتب عدد من العلماء والفضلاء فيما يخص تحضير الخطبة أو إلقائها، وأثروا الساحة حتى يستفيد حديث العهد ويتجدد الخبير، وكتبهم ومقالاتهم مطبوعة متداولة إن ورقية أو حاسوبية، وأما الدراسات المعتنية بصناعة فكرة للخطبة فنادرة؛ ولعل همة أحد الخطباء المصاقعة ترد هذا الروض الأنف؛ فالفكرة عزيزة المنال صعبة البلوغ، ولا تتأتي لأي أحد بيسر، بل قد تتمنع على الفطاحل الكبار والأساطين العظام لا عن عجز واستحالة؛ وإنما لصعوبة الموقف وهول المطلع فارتقاء المنابر والخطابة أمور تشيب منها المفارق.

والفكرة إما أن تكون جديدة لم يسبق إليها، وقد تكون قديمة لكنها تبعث بطريقة إبداعية أو من وجه لم يطرقه أحد؛ وكم ترك الأول للآخر، والموفق من أعانه الله ورزقه النية الصادقة الباعثة على الجد والبحث والاستقصاء، لأن الأفكار تحدث تغييرا في المجتمع، ولا بد من معرفة كيفية الحصول عليها وبثها كمفهوم قابل للانتشار والبقاء؛ وما أعظم الفرق بين فكرة خالدة وأخرى بائدة.

سبل صناعة الفكرة
ولصناعة فكرة مناسبة للمنبر عدة سبل تنفع الخطيب والكاتب والمتحدث والمسوق ومصممي الإعلانات وغيرهم، وحديثنا هنا مقصور على الخطباء؛ ومن السبل المقترحة لصناعة فكرة للخطبة:
1. التفكير: وهو أكبر مصنع لها؛ وبواسطته تتولد الأفكار من الطرق التي بعده، ومنه التفكير بصيغة المستقبل حيث أن رؤية مستقبل غير مرغوب فيه - مثلا- تقود إلى إصلاح الحاضر والمستقبل؛ فوجود نسبة عالية من البطالة بين الشباب تعني – تلقائيا- زيادة معدل الجريمة. ومنه التفكير بصيغة "ماذا لو"؛ ومن الأمثلة على ذلك ماذا لو أن المسلمين يحكمون العالم؟ ثم يسرد الخطيب وقائع تاريخية ثابتة عن العدل الإسلامي الذي لم يحتج لمحكمة عدل ولا هيئة أمم!

2. الملاحظة والتأمل: وهما فرع من التفكير، وإنما خصصتهما بالذكر لقربهما وسهولة استخدامهما؛ وكم من شيء أو مشهد يمر بنا كثيرا ولو تدبرناه لظفرنا بفكرة أو خاطرة. وقد حدثني أحد الأصدقاء أن أحد مشاهير العلماء قد خرج إلى البر مستجما فلما عادوصعد منبره خطب عن عظيم قدرة الله في الغيث والزرع.

3. النظر من زوايا مختلفة للموضوع الواحد: فموضوع الزكاة - مثلا- قد يوظفه إمام للحديث عن مكانتها، وآخر عن حكمها، وثالث يربطها بالصلاة، ورابع يذكر بقتال المرتدين لأجلها، وخامس يوضح أثرها في الماضي والحاضر، وسادس يبين أحكام نوازلها، وسابع يقترح أفكارا لمشروعات زكوية، وثامن يقف على ما يعترضها من مصاعب، وتاسع يشرح أصناف الزكاة، وعاشر يصحح الأخطاء في فهم وإخراج الزكاة.

4. الدخول من منافذ غير مألوفة: فوفاة عالم معلم باب للحديث عن ضرورة إحياء الجوامع التي كانت معاهد علم وتربية، كما يمكن تحليل التفاعل الإعلامي مع وفاة الشيخ، ولثالث أن يهتك ستر أهل الضلالة وموقفهم من الشيخ حيا ومريضا وميتا.
ولو أعملنا هذه الطريقة مع شهر رمضان الأغر لانصرف أحد الخطباء عن ذكر فضائله إلى التحذير من مختطفيه ومنغصي قداسته.

5. الإنصات: فسماع أحاديث الناس منجم للأفكار؛ والأمر في حق الخطيب أعظم لأنه يعلم العامة ويسعى في رفع الظلم عنهم وأنى له معرفة ما يحتاجه المستمعون بغير إصغاء؟

6. أحداث الساعة: وهي من أكثر المصادر استخداما وأيسرها، وما أكثر الأفكار في الأحداث؛ فمن نظرة شرعية لأنفلونزا الخنازير إلى موقف واجب مع أهل فلسطين أو الإيغور أو غيرها من الأحداث التي يعيشها الناس.

7. الحوار والمناقشة: وبخاصة عندما يكون مع شخص ملهم للأفكار؛ ومن أنفع الحوارات الحديث مع التربويين وعلماء النفس والاجتماع، ومن أجله الجلوس بين يدي عالم جليل دوريا للإفادة منه؛ ومما ذكر في جدول أعمال الشيخ ابن عثيمين-برد الله مضجعه- لقاء دوري مع الخطباء.

8. استخدام الأفكار المتداولة: بإعادة إنتاجها اختصارا أو زيادة أو تعقيبا وهذا من أسهل ما يكون، ومن الأولوية بمكان استفادة الخطباء من بعضهم عبر لقاء متعاقب أو من خلال المواقع المتخصصة ، وقد تعددت في زماننا هذا أمثالها.

9. القراءة: وأعني القراءة بأنواعها وفي جميع الفنون؛ وعبر الكتاب أو الموقع أو المجلة أو الصحيفة أو النشرة، وحري بالخطيب أن يكون قارئا نهما مطلعا بصيرا ليزداد خيره وعطاؤه والأجر عند الله.

10. البحث في موضوعات خصبة: كالأسماء الحسنى والصفات العلى وسير السلف الصالح والتاريخ الإسلامي والأخلاق الكريمة والظواهر الاجتماعية التي يجدر بالخطباء الحديث عنها كآثار العضل والعنوسة والطلاق والعنف والبطالة.

مسائل هامة:
وتبقى مسائل لامناص من الإشارة العاجلة إليها وهي:
• أهمية وضوح الفكرة حتى لا يعسر على المصلين التقاطها.
• الأفضل ألا تتزاحم الأفكار في خطبة واحدة، وأحسن الخطب ما اقتصرت على فكرة واحدة فقط.
• اختيار التوقيت المناسب والمنبر الأنسب للخطبة، ففرق بين قرية ومدينة وحاضرة وبادية.
• تدوين الأفكار كمشاريع لخطب مستقبلية حتى لا تضيع.
• تلخيص فكرة كل خطبة مع نهايتها حتى ترسخ.
• ألزم نفسك بأفكار مبتكرة للمناسبات المتكررة، وسل نفسك: هل هذه أفضل فكرة يمكن الوصول إليها؟
• بعد ولادة الفكرة ينبغي التريث حتى تنضج على نار هادئة من الفكر المستنير المتزن قبل نشرها.

وإذا فرغنا من صناعة الفكرة فلا مفر من صياغتها على الوجه الذي يجلو البهاء ويبين المحاسن؛ وإلقائها بطريقة تأخذ بمجامع النفس، وإن الصياغة والإلقاء من القضايا التي يعتني بها الخطباء حتى تكون كلمات الخطبة وطريقة أدائها مما يعين على انتشار فكرتها وبقائها حية في نفوس المستمعين؛ فالخطبة مجموعة كلمات تؤدى بنمط ما؛ ونحن بالكلمة الصادقة والأداء الرفيع والفكرة الجذابة والرؤى العملية نواجه الطوفان الذي يجتاح بلاد المسلمين غير آبه بمصلحة دنيا أو صلاح آخرة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة