- اسم الكاتب:عبد الله بن محمد البصري
- التصنيف:أمراض القلوب
النفاق من أشد الأمراض على المجتمع خطرا، ووجود المنافقين في المجتمع -على أي صفة كانوا- مرض خطير وشر كبير، وإذا كان المنافقون في الأصل هم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر فإن ثمة صفات أخرى قد يتصف بها المسلم ولا تصل به إلى حد الكفر والخروج من ملة الإسلام، ولكنها نفاق عملي وفساد قلبي، ومعاص كبيرة وموبقات مهلكة، تكسب صاحبها الإثم ويستوجب بها شديد العقوبة.
وإذا كانت تصرفات المرء في حياته العامة وتعامله مع من حوله يدور حول تحقيق مصالحه الشخصية، ولا يخرج عن إشباع رغباته النفسية، وهو في كل شأنه يضمر العداوة لإخوانه، ولا يبالي في حديثه عنهم بما يلصقه بهم من بهتان أو كذب، ويهمزهم ويلمزهم، ويبحث عما يؤذيهم – فتلك علامات على النفاق العملي وضعف الإيمان، وظهور الفسق وسقوط العدالة.
ومن المظاهر التي انتشرت في المجتمع اليوم، وهي من صفات المنافقين التي ذموا بها في كلام رسول الله: الفجور في الخصومات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". (رواه البخاري ومسلم).
والفجور في المخاصمة -أيها المسلمون- ضعف شخصية وقلة مروءة، وصفاقة وجه ووقاحة، وتعلق بالدنيا واغترار بها، وحب للحياة وركون إليها، ونسيان للموت والحساب، وغفلة عن المصير المحتوم في الآخرة، وانسياق وراء الإيحاءات الشيطانية.
والمؤمن العاقل الذي يخاف من ربه ويخشى عاقبة ذنبه، ويعلم أنه {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق:18)، ولا يكتب حرفا إلا كان عليه فيه حسيب، يحسب لكل ما يخرج من فمه حسابا، ويزن كل كلمة تكتبها يده، ويفكر في كل حرف يخطه قلمه، ويقف في كلامه عن الناس أو اتهامه، عند حدود الحق والواقع الذي عنده من الله فيه برهان، ولا يسترسل مع خواطر النفس وحبها للانتقام فيتزيد في الكلام، أو تجره شدة العداء إلى البهتان والافتراء، ولا يؤدي به حب الانتصار إلى إلقاء التهم على الناس جزافا دون تحقق ولا تثبت.
أجل -أيها الإخوة- إنه لفجور وأي فجور أن يخرج المرء عن الحق عمدا، ويتجاوز قدر الحاجة من الجهر بالسوء للتظلم، حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا؛ ليشفي غليلا في قلبه، أو يذهب غيظا في صدره، أو يبرد حرارة في كبده، أو يقضي حاجة في نفسه ويشعرها أنه قد انتصر لها.
أجل -أيها الإخوة- إن في مجتمعنا اليوم من إذا وقع بينه وبين إنسان آخر خلاف، أو رأى منه ما لا يعجبه لم يقف عند حدود الحق والعدل، وتعدى إلى الباطل والبغي، وتراه يفرح أن يؤتى لسانا سليطا أو قلما بليغا؛ ليزين دعاواه بالأباطيل ويجملها بما يميل بالناس معه على خصمه، ويوهمهم أنه على حق وهو يعلم علم يقين أنه لا حق له، وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
والألد الخصم -أيها المسلمون-: هو المتصف باللجاج، الشديد في مجادلته بالباطل، الكذاب في مقالته، الفاجر في خصومته، الظالم في حكمه، المندفع مع ما يمليه عليه الشيطان من أفكار واتهامات لخصمه. يحسبها شجاعة وقوة شخصية أن يسكت الناس بجداله، ويلجم أفواههم بالحجة الباطلة، ويشعر بالاعتزاز والاعتداد بالنفس بقدرته على جعل حق الآخرين في صورة باطل وباطله هو في صورة حق، ولا تكاد ملابسه تسعه فخرا وتيها حين يقهر خصمه أو يكسره، وما درى أنه لا يزال في سخط من الله ما دام في مخاصمته بالباطل، وأنه إنما يهوي بنفسه في الحضيض ويدنسها، بقدر ما يلبس الآخرين مما ليس فيهم؛ فعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال". (رواه أحمد وصححه الألباني).
ألا فلنتق الله -أيها المسلمون-، ولا يحملنا كره أحد أو حب الانتصار عليه أو الانتقام منه، أو احتقاره واستصغاره، لضعفه أو لغربته وقلة ناصره، لا يحملنا كل ذلك على أن نعدو الحقيقة ونتجاوز الصدق، أو نماري بالباطل ونسترسل في الكذب، أو أن نتلذذ بالمجادلة والمخاصمة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" (متفق عليه).
وقد ذم الله المنافقين بعلو الصوت في الباطل فقال في وصفهم: {وإن يقولوا تسمع لقولهم} (المنافقون: 4)، وذم قوما آخرين فقال: {بل هم قوم خصمون} (الزخرف:58).
فالحذر الحذر من إيذاء المؤمنين؛ فإن عاقبته وخيمة أليمة في الدنيا والآخرة، قال -عز وجل-: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} (الأحزاب:57-58).
أيها المسلمون: إن في مجتمعنا نفوسا تمادت في تتبع مشتهياتها وطرد رغباتها، وترك أصحابها لها الحبل على الغارب حتى مرضت وسقمت، وعشش فيها البغي وأسرها الطغيان، واتصفت بالفجور في الخصومة، وتساهلت برمي الناس بما ليس فيهم، لم يردعها حكم شرع، ولم تمنعها مروءة، بل هانت حتى استباحت كل الوسائل وسلكت كل الطرق ولو كانت غير مشروعة، ما دامت تراها ترد اعتبارها المزعوم أو تؤدي إلى أخذ حقها المفتعل، وقد تبلغ الحال ببعض الناس إلى أن يحلف بالله كاذبا، ناسيا أو متناسيا قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: "من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان".
إن الخلاف لم يزل يحدث بين الناس منذ كانوا، وقد تخاصم الرجال حتى العقلاء، لكننا لم نشهد نكسة في شرف الخصومة هي أعظم مما رأيناه في عصرنا، فنجد الزوجين إذا تخاصما بغيا على بعضهما، وانتصر أهل كل واحد منهما له وفجر في خصومته وكذب، وكذا يفعل المدير مع موظفيه، والموظف مع مديره، والكفيل مع عامله والعامل مع صاحب العمل، وصاحب الحق مع جاحده أو جاحد بعضه.
نعم -أيها الإخوة- لقد أصبح كثيرون لا يفرقون بين أن يطلب المرء حقه بصدق وعدل واعتراف، وبين أن يتحول إلى ظالم باغ كذوب فاجر، يلبس خصمه ما ليس فيه، ويقوله ما قال وما لم يقل، وكأن الحق لا يعود لصاحبه إلا بالقذف والسب والتعيير، وفحش القول والتفحش مع الخصوم؛ فأي جهل وظلم أعظم من جهل من لا يردعه الخوف من الله عن تعدي حدوده والخروج عن أطره.
ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون- {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة:8)، وتأدبوا بما أدب به الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أمته حيث قال: "من طلب حقا فليطلبه في عفاف واف أو غير واف". (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).أي عفاف عن الحرام وسوء المطالبة وإطلاق اللسان بما لا يحل، سواء استوفى حقه أم لا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير