جسر على الطريق

0 1048

فى طريق كل سائر إلى الله تعالى جسر لابد من تجاوزه وعبوره اذ إن هذا شأن السالكين الى الله – تعالى – فى كل زمان ومكان بل وانه من شأن الأنبياء والمرسلين, ذالكم الجسر هو الابتلاء والمحن التى تصيب السائر.

فلابد فى هذا الطريق أن يصقله الابتلاء وأن تظهر معدنه المحنة , قال الله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت:2-3) .. وكان أول تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة إنذاره بالإخراج.. قال ورقة: "ما أتى رجل بمثل ما أوتيت به إلا عودى" .. وقال الراهب للغلام: أنت اليوم أفضل منى وإنك ستبتلى.. وقيل للشافعى: أحب اليك أن يمكن الرجل أو يبتلى, قال: لا يمكن حتى يبتلى.

فالجسر إلى التمكين فى هذا الطريق هو الابتلاء.. ولابد من الصبر فيه والاحتساب والرضا عن الله تعالى وبه, فإنه جسر الوصول.. وقد حفت الجنة بالمكاره.. يقول ابن القيم: "وان تأملت حكمته – سبحانه وتعالى – فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجل الغايات وأكمل النهايات التى لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان, وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذى لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه, وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المحنة فى حقهم والكرامة, فصورته صورة ابتلاء وامتحان, وباطنه فيه الرحمة والنعمة, فكم لله من نعمة جسيمة ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان".

وللمحن فى هذا الطريق خصائص ومميزات, فكما أن المسلم يجب ألا ينفك عن عبادة ما.. {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}(الأنعام:162) فلابد أن يكون شعوره بالابتلاء هكذا: أنه فى عبادة تدوم معه فى كل حركاته وسكناته حتى يستصحب نية العبد على البلاء واحتساب الأجر عند السميع البصير {الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين}(الشعراء:218–219).

وهذا الجسر خطير.. جسر الابتلاء.. فإن كثيرا من السالكين ضعفت قوته عن عبوره فرجع القهقرى وترك الطريق.

وجسر آخر
ثم يطالعك جسر آخر على الطريق.. وهو النفس – نعوذ بالله تعالى – من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

يقول ابن القيم فى المدارج: "فالنفس جبل عظيم شاق فى طريق السير الى الله – عز وجل – وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل, فلابد أن ينتهى إليه, ولكن منهم من هو شاق عليه, ومنهم من هو سهل عليه, وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
وفى ذلك الجبل أودية وشعوب وعقبات ووهود وشوك وعوسج وعليق وشبرق, ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين، ولا سيما أهل الليل المدلجين, فاذا لم يكن معهم عدد الإيمان، ومصابيح اليقين، تتقد بزيت الإخبات وإلا تعلقت بهم تلك الموانع, وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير.

فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته, والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه. فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته وضعف عزيمة السائر ونيته فيتولد من ذلك: الانقطاع والرجوع.. والمعصوم من عصمه الله. وكلما رقى السائر فى ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه, فإذا قطعه وبلغ قلته انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا, وحينئذ يسهل السير, وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقباتها، ويرى طريقا واسعا آمنا يفضى به إلى المنازل والمناهل, وعليه الأعلام وفيه الإقامات, قد أعدت لركب الرحمن.

فبين العبد وبين السعادة والفلاح: قوة عزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب, والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم".

فالنفس أمارة بالسوء, داعية إلى المهالك، طامحة إلى الشهوات؛ ولذا فهى أيضا جسر لابد من عبوره.. أتى رجل إلى أبى على الدقاق فقال: قطعت إليك مسافة, فقال: ليس هذا الأمر بقطع المسافات, فارق نفسك بخطوة تصل إلى المطلوب, فلابد من عبور جسر النفس, شهواتها, ملذاتها, أهوائها, آمالها.. لابد أن تعبر مرحلة "نفسى وما تشتهى" لتصل عبر جسر نفسك إلى ما يرضى ربك.

ويزيدك بصيرة فى الأمر قول ابن القيم – رحمه الله – فى طريق الهجرتين:
" وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل, وعدها قرب التلاقى وبرد العيش عند الوصول, فيحدث لها ذلك نشاطا وفرحا وهمة فهو يقول: يا نفس أبشرى فقد قرب المنزل ودنا التلاقى، فلا تنقطعى فى الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الأحبة, فإن صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة جزلة وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات, وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة, فإن الدنيا كلها ساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة, فالله الله لا تنقطعى فى المفازة, فهو – والله – الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.

فإن استصعبت عليه فليذكرها ما أمامها من أحبابها, وما لديهم من الإكرام والإنعام, وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء, فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعها, وإن تقدمت فإلى أحبابها مصيرها, وإن وقفت فى طريقها أدركها أعداؤها. فإنهم وراءها فى الطلب. ولابد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة.. فلتختر أيها شاءت. وليجعل حديث الأحبة وشأنهم حاديها وسائقها. ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها, وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها, ولا يوحشه انفراده فى طريق سفره. ولا يغتر بكثرة المنقطعين, فألم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم، وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم، فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟

وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم، بل هى من عوارض الطريق, فسوف تبدو له الخيام, وسوف يخرج إليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم, فيا قرة عينه إذ ذاك , ويا فرحته اذ يقول "{يا ليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}(يس:26-27).

ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع وذوب النفس وبطء سيرها, فكلما أدمن على السير وواظب عليه غدوا ورواحا وسحرا، قرب من المنزل وتلطفت تلك الكثافة وذابت تلك الخبائث والأدران, فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم, فتبدلت وحشته أنسا، وكثافته لطافة، ودرنه طهارة".

هذا هو جسر النفس.. البلاء الأكبر.. والعائق الأشد.. يشبه الجسر المعلق الذى لا جوانب له يستند عليها السائر.. فهو خطر جدا لا بد عند المرور عليه من التركيز والهدوء.. والتيقظ والانتباه لكل حركة يد ونقلة رجل.. وإلا.. فالسقوط.

نعم: إنه جسر واهن.. من كثرة الذنوب والمعاصى.. ولذا كان على السائر أن يأخذ حذره.. ويتدرب المرة بعد المرة.. ويحاول ويعيد, ثم يحاول ويعيد حتى ينجح فى ترويض نفسه على عبور تلك الجسور.

وبعد – أيها السائر الحبيب -: فيا سعادة من جاهد تلك الآفات.. نعم: إنها أشواك, لكنها أشواق يستشعر فيها السائر لذة الألم لله.. واحتساب الأجر من الله.. فدس الشوك وسر إلى الله. فقد اقتضت سنة الخالق أن العسل لا يحصل عليه إلا بلسع النحل.. فما كان للمسافر إلى الله أن يحصل على ما يفيده فى طريق وصوله إلا بشىء من المكابدة والعسر.

يقول ابن القيم – عليه رحمة الله -: "وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة, فالنفس موكلة بحب العاجل, وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب, ومطالعة الغايات, وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم, وأن من رافق الراحة حصل على المشقة وقت الراحة فى دار الراحة, فإن على قدر التعب تكون الراحة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب "أصول الوصول"

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة