- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:سيد ولد آدم
الأنبياء هم صفوة البشر، وهم أكرم الخلق على الله تعالى، اصطفاهم الله تعالى وجعلهم مبلغين دينه لخلقه، قال الله تعالى: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة}(الأنعام: 89)، وقال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}(الأنعام:90). وقد اتفقت الأمة على أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يتعلق بتبليغ الوحي، فلا يكذبون، ولا ينسون، ولا يغفلون، قال القاضي عياض: "الأنبياء منزهون عن النقائص في الخلق والخلق "، وقال ابن تيمية: " فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة". وقال ابن حجر: "وعصمة الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام: حفظهم من النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثبات في الأمور، وإنزال السكينة".
واجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحالفه فيه الصواب أو الأولى لا يخل بعصمته، لأن وحي الله تعالى معه، فإن أصاب فى اجتهاده لم يأت تنبيه وتصحيح من الله عز وجل، فدل على إقرار رب العزة له، ووجوب متابعته فيه، وإن خالف اجتهاده الأولى نزل وحي الله تعالى بالتنبيه والتصويب لما هو أولى (مثل ما حدث مع الأسرى في غزوة بدر)، وفى التنبيه والتصحيح يصبح اجتهاده صلى الله عليه وسلم وحيا وحكما نهائيا يجب طاعته ويحرم مخالفته، وهذا أهم ما يفرق به بين اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم واجتهاد علماء أمته.. وأما اجتهاده ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمر من أمور الدنيا وعدم صوابه فيه فهو لا يتعارض مع نبوته وعصمته، إذ أن الخطأ في أمر من أمور الدنيا ربما يقع من الأنبياء والرسل، ولا يقدح في نبوتهم، ولا يتعارض مع عصمتهم .
وقد استدل بعض المشككين في السنة النبوية وفي عصمة نبينا صلى الله عليه وسلم برأيه صلوات الله وسلامه عليه في تلقيح المسلمين النخل بالمدينة المنورة وعدم الصواب فيه، فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل (يلقحون النخل) فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال:لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا، فتركوه فنفضت، فذكروا ذلك له فقال:إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر) رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال فخرج شيصا (تمرا رديئا). فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم. وفي رواية عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل) رواه مسلم.
لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم صرف المسلمين عما هم فيه من طريقتهم التي يعرفونها في تلقيحهم للنخل، وإنما كان ذلك اجتهادا منه في أمر من أمور الدنيا، ربما يصيب فيه أو لا يصيب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في رواية طلحة بن عبيد الله: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن)، فالصحابة غلطوا فى ظنهم أنه نهاهم بوحى، ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا حدثهم بوحي عن الله تعالى فإنه لن يخطئ فى هذا الوحي، ولذا قال لهم: (إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله تعالى)، والكذب هنا بمعنى: الخطأ، أى: فلن أخطئ فيما أبلغ من وحي الله تعالى، ولا يصح أن يكون المراد حقيقة الكذب، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم منه، حتى ولو حدث عن غير الله تعالى، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأي فإنما أنا بشر).
قال المناوي في شرحه لهذه الأحاديث: "(إنما أنا بشر) أي واحد منهم في البشرية، ومساو لهم فيما ليس من الأمور الدينية، وهذا إشارة إلى قوله تعالى {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي}(الكهف: 110)، فقد ساوى البشر في البشرية، وامتاز عنهم بالخصوصية الإلهية التي هي تبليغ الأمور الدينية، (إذا أمرتكم بشيء من دينكم) أي إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم (فخذوا به) أي افعلوه فهو حق وصواب دائما، (وإذا أمرتكم بشيء من رأيي) يعني من أمور الدنيا (فإنما أنا بشر) يعني أخطئ وأصيب فيما لا يتعلق بالدين، لأن الإنسان محل السهو والنسيان ومراده بالرأي الرأي في أمور الدنيا".
وقد بوب النووي على أحاديث تلقيح النخل في صحيح مسلم بقوله: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي"، وقال في شرحه: "(أنتم أعلم بأمر دنياكم) قال العلماء: أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعا يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله.. قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرا وإنما كان ظنا كما بينه في هذه الروايات، قالوا ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك". وقال ابن تيمية: "لم ينههم عن التلقيح، لكنهم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم". وقال الشيخ أحمد شاكر: "والحديث واضح صريح، لا يعارض نصا، ولا يعارض عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة فى كل شأن، كما لا يدل على ما يزعمون أن السنة النبوية ليست كلها وحي .. وإنما الحديث فى قصة تلقيح النخل أن قال لهم: ما أظن ذلك يغنى شيئا، فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن فى ذلك سنة حتى يتوسع فى هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع".
نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ فيما يبلغه عن الله عز وجل، بخلاف غيره من رأيه في أمر من أمور الدنيا الذي يحتمل الصواب وغيره، فالمسلم يعتقد ويؤمن بعصمة والأنبياء والرسل، وأولهم وأفضلهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يجب الحذر والانتباه غاية الانتباه لمن يريد أن يطعن ويشكك في السنة بقوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يخطئ في أمور الدنيا، وأن بعض الأحكام الشرعية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي اجتهادات شخصية قابلة للصواب والخطأ، فهذا ادعاء كاذب وشبهة واهية، ولذا قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}(النجم 4:3)، قال البغوي: "يريد لا يتكلم بالباطل". وقال السعدي: " أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه {إن هو إلا وحي يوحى} أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره. ودل هذا على أن السنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة}(النساء:113)، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى". وقد قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر:7). قال ابن كثير: "أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ، كتاب الله ، وسنة نبيه) رواه الحاكم وصححه الألباني.
فالسنة النبوية هي سفينة النجاة وبر الأمان من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، قال الزهري: "كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة"، وقال مالك: "السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق".. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) فبداهة لا يكون في الدين والشرع، والواجبات والمحرمات، والمراد: أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والزراعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى، قال المناوي في فتح القدير: "(أنتم أعلم بأمر دنياكم) مني، وأنا أعلم بأمر أخراكم منكم، فإن الأنبياء والرسل إنما بعثوا لإنقاذ الخلائق من الشقاوة الأخروية، وفوزهم بالسعادة الأبدية".