- اسم الكاتب:د. راغب السرجاني
- التصنيف:تاريخ و حضارة
بعد انتهاء عهد الفتح يبدأ عهد جديد في تاريخ قصة الأندلس يسمى عصر الولاة، الذي يبدأ من عام 95هـ =714م ويستمر مدة اثنين وأربعين عاما حيث ينتهي عام 138هـ=755م ، وعهد الولاة يعني أن حكم الأندلس في هذه الفترة كان يتولاه رجل يتبع الحاكم العام للمسلمين، وهو الخليفة الأموي الموجود في دمشق في ذلك الوقت.
وإذا نظرنا إلى عصر الولاة نرى أنه قد تعاقب فيه على حكم الأندلس اثنان وعشرون واليا، أو عشرون واليا تولى اثنان منهم مرتين؛ فيصبح مجموع فترات حكم الأندلس اثنتين وعشرين فترة خلال اثنين وأربعين عاما؛ أي أن كل وال حكم سنتين أو ثلاث سنوات فقط.
ولا شك أن هذا التغيير المتتالي للحكام قد أثر تأثيرا سلبيا على بلاد الأندلس، إلا أن هذا التغيير في الواقع كان له ما يبرره؛ حيث كان هناك في بادئ الأمر كثير من الولاة الذين يستشهدون أثناء جهادهم في بلاد فرنسا، ثم جاءت مرحلة كان فيها كثير من الولاة يغيرون عن طريق المكائد والانقلابات والمؤامرات.. وما إلى ذلك.
ومن هنا نستطيع أن نقسم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة وطريقة الحكم إلى فترتين رئيستين مختلفتين تماما؛ حيث كانت الفترة الأولى فترة جهاد وفتوح وعظمة للإسلام والمسلمين، وتمتد من بداية عهد الولاة من عام 95هـ=714م وحتى عام 123هـ=741م؛ أي: سبعة وعشرين عاما.
وكانت الفترة الثانية فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، واستمرت من سنة 123هـ=741م وحتى سنة 138هـ=755م؛ أي مدة خمس عشرة سنة، وفي تناولنا لفترتي عهد الولاة هاتين لن ندخل في ذكر تفاصيل كل منهما، وإنما سنقتصر على بعض الولاة فقط؛ لما لهم من الأهمية في دراستنا هذه.
عهد القوة:
بصفة عامة تميزت الفترة الأولى من عهد الولاة بعدة أمور؛ كان من أهمها:
نشر الإسلام في بلاد الأندلس
بعد أن تمكن المسلمون من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد بدأوا يعلمون الناس الإسلام، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفطر السوية من الناس عندما عرفوه، فاختاروه بلا تردد؛ فلقد وجد الأسبان في الإسلام دينا متكاملا شاملا ينظم كل أمور الحياة، وجدوا فيه عقيدة واضحة وعبادات منتظمة، وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات، وجدوا فيه تواضع القادة الفاتحين، وجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء، ووجدوا فيه كيفية التعامل مع العدو والأسير، ومع كل الناس.
لقد تعود الأسبان في حياتهم -قبل ذلك- فصلا كاملا بين الدين والدولة؛ فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرد مفاهيم لاهوتية غير مفهومة، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها، وفي التشريعات والحكم يشرع لهم من يحكمهم وفق هواه، وحسبما يحقق مصالحه الشخصية، أما في الإسلام فقد وجدوا أن الأمر يختلف عن ذلك تماما؛ فلم يستطيعوا أن يتخلفوا عن الارتباط به والانتساب إليه؛ فدخلوا فيه أفواجا.
وفي مدة قليلة أصبح عموم أهل الأندلس السكان الأصليين يدينون بالإسلام، وأصبح المسلمون من العرب والأمازيغ البربر قلة بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتجهوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.
نشأة جيل المولدين
كان من جراء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين، وانتشار الإسلام بصورة سريعة أن نشأ جيل جديد عرف باسم جيل المولدين، وهم أبناء الذين أسلموا من أهل الأندلس الأصليين، فقد كان الأب عربيا أو أمازيغيا بربريا والأم أندلسية .
إلغاء الطبقية ونشر الحرية العقائدية
ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس جميعا؛ حتى كان الحاكم والمحكوم يقفان سويا أمام القضاء للتحاكم في المظالم، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحرية العقائدية للناس؛ فتركوا للنصارى كنائسهم.
وهذه المواقف العظيمة إنما كانت تحدث والنصارى محكومون من قبل المسلمين، وعلينا أن نعي هذا الأمر جيدا، ونقارن صنيع المسلمين هذا بما فعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس، فيما عرف باسم محاكم التفتيش الأسبانية.
الاهتمام بالحضارة المادية
اهتم المسلمون في هذه الفترة بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية؛ فأسسوا الإدارة، وأقاموا العمران، وأنشئوا القناطر والكباري؛ ومما يدل على براعتهم في هذا الأمر تلك القنطرة العجيبة التي تسمى قنطرة قرطبة ، وكانت من أعجب القناطر الموجودة في أوربا في ذلك الزمن، كذلك أنشأ المسلمون دورا للأسلحة وصناعة السفن، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة.
تقليد الأسبان للمسلمين في كل شيء
كان من السمات المميزة -أيضا- في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الأسبان بدأوا يقلدون المسلمين في كل شيء؛ حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية التي يتكلمها الفاتحون، بل كان الأسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم.
اتخاذ المسلمين قرطبة عاصمة لهم
كذلك كان من بين السمات المميزة لهذه الفترة -أيضا- أن اتخذ المسلمون قرطبة عاصمة لهم ؛ وقد كانت طليطلة في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس، ولكن وجد المسلمون أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة، وهما من مصادر الخطر عليهم؛ فرأوا أن طليطلة بذلك مدينة غير آمنة؛ ومن ثم فلا يمكن أن تكون هي العاصمة؛ لذلك اختاروا مدينة قرطبة، التي تقع في اتجاه الجنوب؛ لانتفاء الأسباب السابقة، وحتى تكون -أيضا- قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب.
الجهاد في فرنسا :كان الجهاد في فرنسا من أهم السمات المميزة لهذه الفترة من عهد الولاة، فاتخذت خطوات كبيرة في هذه الفترة، وهناك ولاة كان لهم سبق وحضور في عملية الجهاد في بلاد فرنسا.