- اسم الكاتب:الأستاذة / صفية والود غيري
- التصنيف:ثقافة و فكر
إن رحلة القارئ هي رحلة شاقة مضنية، ومثيرة للدهشة والاستغراب في عالم فقد ما يحرك مكامن النفس وبواطنها، وهي رحلة تستغرق سنوات طويلة يقضيها القارئ في الجد والكفاح، والسعي الدؤوب لهدم العوائق وخرق السدود، وكل همه أن يلتمس بصيصا من نور المعرفة، يهتدي به لأجل شق طريقه وتحقيق غاياته، والاحتراز من السقوط في قبر الظلمات، والنجاة من الميل إلى تعاريج الجهالة المهلكة، والخلاص من الانغماس في غمار حياة تعج بالحيرة الزائغة، والشكوك الممزقة للنفس الضالة ..
ومرحلة الانطلاق والبداية هي الأصعب على من كان قارئا يملك عزيمة ماضية كالسيف، ونفسا طامحة إلى خوض كل تجربة جديدة ومتشعبة، تمده بخبرات جمة ومتنوعة، وتعينه على صقل شخصيته ببذل الجهد والتعب، في سبيل تكوين منهج جامع ومتفرد به في تذوق الكلام، عن طريق العكوف على ما خلده الأسلاف، وخلفه الأجداد ومن سبقوهم في إجادة كل فن والاجتهاد في التأصيل لأصوله وفروعه، ومن تقدموهم في تحقيق كل علم وإتقانه، قبل الانتقال إلى ما كتبه الأبناء ودونه الأحفاد، فهم وإن كان لهم شرف اتباع أسلافهم، وغالبوهم فيما حازوه من مجد وسؤدد، يظل الابتداء بمن تقدموهم أولى وأنفع، وأجدى لطالب العلم المجد في التنقيب والتفتيش، والراغب في تحصيل العلوم والمعارف من مصدرها الأول، والطامح إلى الارتواء من منبعها العذب، والاجتناء من مزدرعها الخصب ..
فمن بدأ رخوا ضعيفا، لين الجانب والشكيمة، وخائر القوى والعزيمة، ولا يبذل قصارى جهده، ولا يتحمل معاناة التفتيش في ركام الكلام الموزون المضموم في صفحات الكتب، ولا يسخر ما يملكه من قدرات ومواهب خفية، ولا ما فطره الله عليه من سليقة وسجية، تاه وسط الرفوف المتراصة، وكلما حمل كتابا جديدا سقط من يديه وناء بحمله، ونهض به مثقلا يترنح من سكرة جهله المطبق عليه، حتى يعيده إلى مكانه الشاغر، مغتبطا براحته واستجمامه، وبتبذير ما تبقى في حوزته من ساعات الزمن المتهالك في الهزل والتسلي واللهو ..
أما من بدأ صلبا قويا، يسخر حواسه في قراءة متأنية وطويلة الأناة، لابد وأن يدرك مبتغاه الأسنى، ويبلغ مطلبه البعيد المنال، وينفذ إلى حقيقة كل لفظ ومعنى يستحق المراجعة والاستقصاء، مع طول التنقيب في كلام الأوائل من الأئمة الأعلام، وسيزداد مع تطاول الأيام رحابة في الفهم، ودقة في التحليل والشرح، وسعة وشمولا، واستقصاء لما تبطنه العبارات، ونفاذا إلى ما كان خفيا دفينا، وستنفتح أمامه آفاق الاستبصار، ومنافذ التطلع والترقب لكل جديد، خليق بالنظر والتأمل والتذوق..
وهذه الصلابة والقوة في الإقبال على القراءة هي التي حثت أبا فهر محمود محمد شاكر أن يبدأ رحلته الطويلة والشاقة في إعادة قراءة الشعر العربي كله وحيدا منفردا، وأن يسخر لها كل سليقة فطر عليها، وكل سجية لانت له بالإدراك، وكل معرفة تنال بالسمع أو البصر أو الإحساس أو القراءة، وكل ما يدخل في طوقه من مراجعة واستقصاء لكي ينفذ إلى حقيقة البيان، لينتقل بعد ذلك إلى فتح باب آخر من النظر بعد اكتسابه لبعض الخبرة بلغة الشعر، وفن الشعراء وبراعاتهم، وقد تحدث عن هذا الانفتاح والتقدم في التذوق في كتابه " المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا "
فقال: " ثم انفتح لي باب آخر من النظر، قلت لنفسي: "الشعر" كلام صادر عن قلب إنسان مبين عن نفسه . فكل " كلام " صادر عن إنسان يريد الإبانة عن نفسه، خليق أن أجري عليه ما أجريته على "الشعر" من هذا "التذوق" .. فأخذت أهبتي لتطبيق هذا "التذوق" على كل كلام، ما كان هذا الكلام . فأقدمت إقدام الشباب الجريء على قراءة كل ما يقع تحت يدي من كتب أسلافنا : من تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن على اختلافها، إلى دواوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وشروحها، إلى ما تفرع عليه من كتب مصطلح الحديث وكتب الرجال والجرح والتعديل، إلى كتب الفقهاء في الفقه، إلى كتب أصول الفقه وأصول الدين ، وكتب الملل والنحل، ثم كتب الأدب وكتب البلاغة، وكتب النحو وكتب اللغة، وكتب التاريخ، وما شئت بعد ذلك من أبواب العلم، وعمدت في رحلتي هذه إلى الأقدم فالأقدم، كل إرث آبائي وأجدادي، كنت أقرؤه على أنه إبانة منهم عن خبايا أنفسهم بلغتهم، على اختلاف أنظارهم وأفكارهم ومناهجهم. وشيئا فشيئا انفتح لي الباب على مصراعيه، فرأيت عجبا من العجب وعثرت يومئذ على فيض غزير من مساجلات صامتة خفية كالهمس، ومساجلات ناطقة جهيرة الصوت غير أن جميعها إبانة صادقة عن هذه الأنفس والعقول.