- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:آيات ومعجزات النبوة
أجرى الله تبارك وتعالى على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دلائل ومعجزات باهرات، إذا نظر إليها المنصفون الذين يريدون الحق دلتهم على أنه صلوات الله وسلامه عليه نبي يوحى إليه، والسيرة النبوية حافلة بأمور غيبية مستقبلية أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت وفق ما أخبر به ـ في حياته أو بعد موته ـ، وما ذلك إلا لأنه صلوات الله وسلامه عليه إذا أخبرنا عن شيء من الأمور الغيبية، فإنما يخبر بشيء من علم الله عز وجل الذي خصه به وأطلعه عليه، وأوحى به إليه، ليكون برهانا ودليلا على نبوته ورسالته، قال الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول}(الجـن:26: 27). قال البغوي: "{إلا من ارتضى من رسول} إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب".
ومن هذه الأمور الغيبية المستقبلية التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت كما أخبر بها بعد موته: إخباره أن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها ـ وهي خالته من الرضاعة ـ ستشارك في الغزو والجهاد من خلال البحر، وهو أمر لم يكن يخطر ببالها ولا ببال أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، ولكنه وقع كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان دليلا من دلائل نبوته. وقد وصف أبو نعيم في كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" أم حرام بنت ملحان بقوله: "حميدة البر، شهيدة البحر، التواقة إلى مشاهدة الجنان، أم حرام بنت ملحان".
روى البخاري في صحيحه عن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها أنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا).
قال القسطلاني: " (أول جيش من أمتي يغزون البحر) هو جيش معاوية، (قد أوجبوا) لأنفسهم المغفرة والرحمة بأعمالهم الصالحة، (قالت أم حرام: قلت يا رسول الله أنا فيهم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أنت فيهم) (ثم قال النبي): (أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر) ملك الروم يعني القسطنطينية (مغفور لهم)، قالت أم حرام (فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال): (لا) فركبت البحر زمن معاوية لما غزا قبرص سنة ثمان وعشرين، فلما رجعت قربت دابة لتركبها فوقعت فاندقت عنقها فماتت".
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت (أي زوجته)، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه (تفرق شعر رأسه وتفتش ما فيه)، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال:ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج (ظهره ووسطه) هذا البحر ملوكا على الأسرة - أو مثل الملوك على الأسرة .. قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وضع رأسه، ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله - كما قال في الأول - قالت فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت (ماتت)) رواه البخاري.
قال القاضي عياض: "(فاستيقظ وهو يضحك): ضحكه لما بشر به من أمر أمته، وغزوهم فى البحر، وسروره بما يفتح الله عليهم فى الدنيا، ويدخله عليهم من الأجر فى الأخرى". وقال ابن بطال: "وهذا الحديث من أعلام النبوة، وذلك أنه أخبر فيه بضروب من الغيب قبل وقوعها، فمنها: جهاد أمته فى البحر، وضحكه دليل على أن الله يفتح لهم ويغنمهم، ومنها: الإخبار بصفة أحوالهم فى جهادهم وهو قوله: (يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة) ومنها قوله لأم حرام: (أنت من الأولين) فكان كذلك، غزت مع زوجها فى أول غزوة كانت إلى الروم فى البحر مع معاوية. وفيه: هلكت، وهذا كله لا يعلم إلا بوحى من الله تعالى على ما أوحى إليه به فى نومه. وفيه: أن رؤيا الأنبياء وحى".
وقال ابن حجر: " وفيه ضروب من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال, وذلك معدود من علامات نبوته: منها إعلامه ببقاء أمته بعده، وأن فيهم أصحاب قوة وشوكة ونكاية في العدو, وأنهم يتمكنون من البلاد حتى يغزوا البحر, وأن أم حرام تعيش إلى ذلك الزمان, وأنها تكون مع من يغزو البحر, وأنها لا تدرك زمان الغزوة الثانية ".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "وفيه من دلائل النبوة ثلاث، إحداها: الإخبار عن الغزوة الأولى في البحر، وقد كانت في سنة سبع وعشرين مع معاوية بن أبي سفيان حين غزا قبرص وهو نائب الشام عن عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام بنت ملحان فتوفيت مرجعهم من الغزو كما تقدم في الرواية عند البخاري.. والغزوة الثانية غزوة قسطنطينية مع أول جيش غزاها، وكان أميرها يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وذلك فى سنة ثنتين وخمسين.. ولم تكن هذه المرأة معهم، لأنها كانت قد توفيت قبل ذلك في الغزوة الأولى، فهذا الحديث فيه ثلاث آيات من دلائل النبوة، الإخبار عن الغزوتين، والإخبار عن المرأة بأنها من الأولين وليست من الآخرين، وكذلك وقع، صلوات الله وسلامه عليه".
وقال القاضي عياض: "قال أكثر أهل السير والأخبار: ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وإن فيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرص فصرعت عن دابتها هناك، فتوفيت ودفنت هناك، وعلى هذا يكون قوله: في زمان معاوية معناه: في زمان غزوه في البحر، لا في أيام خلافته".
فضل الجهاد والغزو في البحر :
الغزو والجهاد في البحر له فضل ليس للغزو والجهاد في البر، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غزوة في البحر, خير من عشر غزوات في البر, ومن أجاز البحر (عبره في سفينة) فكأنما أجاز الأودية كلها, والمائد فيه (الذي يصيبه الدوار والقيء) كالمتشحط (المتمرغ) في دمه) رواه الطبراني وصححه والألباني. وقد بوب مسلم في صحيحه قال: "باب فضل الغزو فى البحر" وذكر حديث أم حرام السابق، وبوب الترمذي في سننه: "باب ما جاء في غزو البحر" وذكر حديث أم حرام، وفي سنن أبي داوود: "باب فضل الغزو فى البحر" وذكر حديث أم حرام، وفي سنن ابن ماجه: "باب فضل غزو البحر" وذكر حديث أم حرام. قال ابن قدامة في "المغني": "لأن البحر أعظم خطرا ومشقة، فإنه بين العدو وخطر الغرق، ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه، فكان أفضل من غيره".
الأمور الغيبية المستقبلية التي أخبرنا عنها نبينا صلى الله عليه وسلم ـ كإخباره أم حرام بنت ملحان بغزوها في البحر، وغير ذلك ـ ووقعت كما أخبرنا بها، تشهد شهادة صادقة، وتدل دلالة واضحة على نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ أن هذه الأمور الغيبية غيوب مستقبلية لا يعلمها إلا الله عز وجل، وقد أوحى بها لنبيه صلى الله عليه وسلم وأطلعه عليها، ووقعت في حياته أو بعد وفاته وفق ما أخبر به، وفي ذلك أعلام ظاهرة على نبوته وعلو قدره ومنزلته صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}(النجم4:3).