القاهرة من أبوابها ( 1)

0 922

خرجت القاهرة إلى الوجود سنة 358 هجرية /969 م لتعلن عن بداية حقبة جديدة فى تاريخ مصر والمنطقة العربية كلها. فقد بنيت القاهرة لتكون عاصمة لدولة مستقلة وخلافة شيعية منافسة للخلافة العباسية السنية القائمة آنذاك فى بغداد. وقد بناها القائد جوهر الصقلي بعد أن دخل مصر باسم الفاطميين الذين كانت دولتهم قد قامت فى شمال أفريقيا. وقد اختار جوهر الصقلي للمدينة الجديدة اسم “المنصورية”؛ ولكن المعز لدين الله أول الفاطميين بمصر اختار لها اسم القاهرة.

وكانت القاهرة “… رابع موضع انتقل إليه سرير السلطنة من أرض مصر فى الدولة الإسلامية…” على حد تعبير المؤرخ تقي الدين المقريزي، خير من كتب عن القاهرة وأرخ لها على مر الزمان حتى الآن.

فقد كانت الفسطاط العاصمة الأولى لمصر بعد الفتح الإسلامي؛ وقد بناها الفاتح عمرو بن العاص رضي الله عنه على هيئة مدينة عسكرية بعيدة عن الإسكندرية التى اتخذها البيزنطيون عاصمة لمصر تحت حكمهم. وقد أسكن عمرو بن العاص جنوده فى المدينة الجديدة على شكل خطط أو أحياء خصص كلا منها للمحاربين من أبناء القبائل العربية التى كونت جيش الفتح الإسلامي. وفى فترة لاحقة بنيت مدينة ” العسكر” خارج الفسطاط لتكون معسكرا للجيش.

وبعدما نجح أحمد بن طولون فى الاستقلال بمصر مع الاحتفاظ بالولاء للخلافة العباسية، بنى مدينة القطائع عاصمة جديدة لمصر على أمل أن يبنى أسرة حاكمة من سلالته؛ ولكن الدولة الطولونية لم تعش أكثر من بضع وثلاثين سنة ثم سقطت وعاد مركز العاصمة فى عصر الولاة الثانى إلى مدينة العسكر، وظل ذلك ساريا حتى فتح الفاطميون مصر وبنوا القاهرة …

وكان الموضع الذى بنيت فيه القاهرة فضاء تكسوه الرمال يعبره الناس فى طريقهم من الفسطاط ذهابا وإيابا. وعندما بناها جوهر الصقلي كان القصد أن تكون عاصمة للدولة الجديدة وحصنا أمام الفسطاط خوفا من القرامطة الذين زحفوا صوب مصر سنة 360 هجرية؛ كما كان القصد أن تكون دار خلافة، وسرير ملك، وأن تكون مدينة الحاكم والحاشية والحامية. ولكن القاهرة أبت إلا أن تكون عاصمة للناس وتمردت على رغبة منشئها وخرجت عن الحدود التى رسمها لها والسور الذى طوقها به؛ كما رفضت أن تكون غريبة على المصريين. ومنذ عصر الأيوبيين، خاصة فى عهد الملك الكامل، بدأت القاهرة تتخلص من طابعها الفاطمي لتصير عاصمة حقيقية لمصر على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فلم تعد مدينة الحاكم والحاشية والحامية كما أراد لها الفاطميون، بل تألقت باعتبارها مدينة الناس. وقال تقي الدين المقريزي “… فصارت مدينة سكن بعد أن كانت حصنا يعتقل به، وابتذلت بعد الاحترام …” وهو كلام يبدو غريبا من رجل أحب القاهرة كما لم يحبها أحد غيره.

بيد أن المثير فى قصة القاهرة أنها خرجت إلى الوجود تتبختر فى دلال بمنطقة الحدود بين التاريخ والأسطورة : فقد راجت حول بنائها حكايات خيالية من إبداع الشعب حول وضع أساسها والظروف التى صاحبت بناءها. وعلى الرغم من أن الأساطير والحكايات الشعبية راجت حول القاهرة وأبوابها على مدى أكثر من ألف عام، فإن هذه الدراسة سوف تقصر اهتمامها على أبواب القاهرة وكيفية تناولها بين التاريخ والتراث الشعبي. وتتناول تاريخ أبواب القاهرة والمعتقدات الشعبية التى ارتبطت بها : سواء أبوابها الأصلية التى بناها القائد الفاطمي جوهر الصقلي مع المدينة، أو تلك التى تجددت أو استحدثت عبر العصور… وما قد خرب منها واندثر، وما بقي من هذه الأبواب حتى اليوم وما ارتبط بها من أحداث التاريخ الحقيقي، وما جرت به الألسن بين الناس من حكايات واعتقادات أنتجها الخيال الشعبي.

بنى جوهر الصقلي حول القاهرة سورا من الطين اللبن؛ وكانت كل طوبة فى هذا السور كبيرة الحجم (ذراع طولا فى ذراع عرضا) بحيث كان يمكن أن يمر فوق السور السميك فارسان متجاوران ويسيران عليه بسهولة. ومن المهم أن نشير إلى أن مدن ذلك الزمان كانت تحيط بها الأسوار والحصون والبوابات للدفاع عنها ضد الجيوش الغازية، وعبث اللصوص، وغدر الغرباء؛ وكانت أبواب المدن تفتح مع شروق الشمس، وتغلق بعد الغروب لتأمين الناس فى داخلها. ولم تكن القاهرة استثناء فى ذلك بطبيعة الحال فقد أنشأ جوهر الصقلي عدة أبواب فى نواحيها الأربعة.

ويلفت النظر أن أبواب القاهرة الأصلية قد اندثرت بمرور الزمن، وبنيت عوضا عنها أبواب جديدة تحمل أسماء الأبواب الأصلية نفسها على مسافة منها تمثل المساحة التى زادت فى حجم المدينة التى خرجت من ثوبها الذى حبسها فيه جوهر والذى ضاق عليها بفعل التطورات السكانية والجغرافية التى جرت عليها : ففى الجهة القبلية من السور كان القائد الفاطمي قد أنشأ بابين باسم زويلة قرب مسجد عرفه الناس آنذاك باسم ” جامع سام بن نوح” فى عصر سلاطين المماليك. وقد اندثر هذان البابان، ولم يبق منهما سوى عقد أحد البابين الذى عرفه الناس آنذاك باسم “الباب القوس”. وقد ارتبطت ببابي زويلة الأصليين بعض المعتقدات الشعبية، كما ارتبطت حكايات شعبية أخرى بباب زويلة الكبير الذى بناه أمير الجيوش بدر الدين الجمالي وزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله سنة 485هـ / 1092 م وكذلك بعض الأحداث التاريخية. ومن المدهش أن المعتقدات الشعبية ارتبطت بواحد فقط من بابي زويلة الأصليين دون الآخر. ويقال إن المعز لدين الله الفاطمي عندما جاء إلى مصر دخل من الباب الملاصق للمسجد فتيامن الناس بهذا؛ وصاروا يكثرون المرور من هذا الباب دخولا وخروجا وهجروا الباب الآخر بشكل شبه كامل؛ وسرت على ألسنة الناس شائعة مؤداها أن من مر من هذا الباب لا تقضى له حاجة.

وعندما سقطت الدولة الفاطمية وبدأت دولة الأيوبيين، بنى الأمير “بهاء الدين قراقوش” السور الثالث للقاهرة فى أيام صلاح الدين الأيوبي سنة566هجرية. وكان السورهذه المرة من الحجر كما كان أطول كثيرا من السور الثانى الذى بناه بدر الدين الجمالي فى العصر الفاطمي، وقد ضم القاهرة والفسطاط والقلعة جميعا. ودخلت منطقة بابي زويلة القديمين فى رحاب المدينة وزالت المعالم القديمة تماما.

وظل باب زويلة بحالته حتى حدث فى عصر سلاطين المماليك أن السلطان المؤيد شيخ المحمودى ( 815 -824هـ ) أراد أن يبنى الجامع الذى يحمل إسمه، فأغلق أحد مدخلي باب زويلة وأنشأ المئذنتين الموجودتين أعلى باب زويلة حتى الآن، وهذه البوابة الضخمة عبارة عن كتلة بنائية ضخمة ترتفع 24 مترا بعرض 26 مترا وعمقها 25 مترا، وهى على شكل برجين مستديرين يتوسطهما ممر كان يدخل الناس ويخرجون عندما كانت القاهرة تفتح أبوابها صباحا وتغلقها فى المساء؛ ولها باب خشبي يزن حوالي أربعة أطنان يتحرك على مصاريع لفتح البوابة وإغلاقها. وقد قام فريق من الأثريين وخبراء الترميم الأثري من المصريين والأمريكيين بترميم باب زويلة وتنظيفه وإعادة تشغيل الباب الخشبي بعد أن ظل ثابتا لا يتحرك بسبب تراكم الأتربة والطين عليه منذ عدة عقود؛ وتم فتح باب زويلة ثانية سنة 2003م.

ويطلق القاهريون عدة أسماء على باب زويلة توارثوها على مدى الأجيال بالإضافة إلى اسمه الأصلي: أشهرها “باب المتولى” نسبة إلى المحتسب أو متولى الحسبة الذن كان مقره فى عصر سلاطين المماليك على مقربة من باب زويلة بحيث يمكنه مراقبة الأسواق والشوارع بنفسه وبمساعدة معاونيه، كذلك كان يطلق على باب زويلة “باب المؤيد” نسبة إلى السلطان “المؤيد شيخ المحمودى” الذى بنى مسجده فى هذا المكان وبنى مئذنتي جامعه فوق الباب فى عصر المماليك الجراكسة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة