اصنعوا لآلِ جعفر طعاماً

0 889

ما من خلق من الأخلاق العظيمة، وما من خصلة من خصال الخير، إلا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له منها أوفر الحظ والنصيب، وقد قال الله تعالى عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم:4)، ومن صفاته صلوات الله وسلامه عليه التي وصفه بها ربه سبحانه الرحمة ولين الجانب لأصحابه فقال سبحانه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران: 159). وفي معاملته صلى الله عليه وسلم لأصحابه من حسن الخلق ما لا يخفي، فقد كان يقضي حوائجهم، ويتواضع معهم، ويشاركهم في مزاحهم - ولم يكن مزاحه معه إلا حقا-، ويجيب دعوتهم، ويزور مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويدعو لهم ولأبنائهم، ويشفق عليهم، ويشعر بآلامهم وآمالهم.. فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم) رواه الحاكم، وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، فيسلم على صبيانهم، ويمسح برؤوسهم، ويدعو لهم) رواه النسائي.

ومن صور حب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ومعاملته لهم: مشاركتهم في مشاعرهم، ومواساتهم وأهلهم وأولادهم في مصابهم، ومحاولة رفع الحزن والأسى عنهم، وله في ذلك مواقف كثيرة، ومن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بعد مقتله واستشهاده في غزوة ومعركة مؤتة.
 
رحمة نبوية ومواساة لآل جعفر :
عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا، استعمل عليهم زيد بن حارثة فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة، فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلي الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل ـ أو استشهد ـ، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل ـ أو استشهد ـ، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل ـ أو استشهد ـ، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد، ففتح الله عليه. ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي ابني أخي، قال فجيء بنا كأننا أفرخ، قال: ادعوا لي الحلاق، فجيء بالحلاق، فحلق رؤوسنا ثم قال: أما محمد فشبه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي، ثم أخذ بيدي فأشالها (رفعها) فقال: اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرار، قال: فجاءت أمنا (أسماء بنت عميس) فذكرت يتمنا، فقال: العيلة (الفقر والحاجة) تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة) رواه أحمد وصححه الألباني.

لما ذكرت أسماء بنت عميس رضي الله عنها زوجة جعفر رضي الله عنه بعد مقتله واستشهاده يتم أولادها وحاجتهم، طمأنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (العيلة، تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة). وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن جعفر بقوله: (وبارك لعبد الله في صفقة يمينه) فكان من أكثر المسلمين تجارة، وكان يضرب به المثل في الجود والبذل والعطاء. قال ابن عبد البر عن عبد الله بن جعفر: "كان كريما جوادا ظريفا عفيفا سخيا، يسمى بحر الجود، ويقال: إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه"، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء عنه: "الجواد بن الجواد ذي الجناحين .. استشهد أبوه يوم مؤتة فكفله النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ في حجره.. وعن العمري: أن ابن جعفر أسلف الزبير ألف ألف، فلما توفي الزبير، قال ابن الزبير لابن جعفر: إني وجدت في كتب الزبير أن له عليك ألف ألف، قال: هو صادق، ثم لقيه بعد، فقال: يا أبا جعفر، وهمت (أخطأت)، المال لك عليه، قال: فهو له، قال: لا أريد ذلك".. ومع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن جعفر رضي الله عنه فإنه كان شديد الاهتمام والعناية به، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن جعفر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل المدينة، وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة). وعن عبد الله بن جعفر قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه, فأسر إلي حديثا, لا أحدث به أحدا من الناس) رواه مسلم.

صنع الطعام لأهل الميت: اصنعوا لآل جعفر طعاما :
يسن لجيران وأقارب أهل الميت تهيئة وصنع طعام يبعثون به إلى أهل الميت، إعانة لهم، وجبرا لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن صنع الطعام لأنفسهم، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قتل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة: (اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم أمر يشغلهم). قال ابن تيمية: "إنما المستحب إذا مات الميت أن يصنع لأهله طعاما، كما قال صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم أمر شغلهم)". وقال ابن العربي: "وهو أصل في المشاركات عند الحاجة.. فذهولهم عن حالهم بحزن موت وليهم، اقتضى أن يتكلف لهم عيشهم". وقال الشافعي: "وأحب لجيران الميت أو ذي القرابة أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت وليلته طعاما يشبعهم، فإن ذلك سنة، وذكر كريم، وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا". وقال ابن قدامة: "يستحب إصلاح طعام لأهل الميت، يبعث به إليهم، إعانة لهم، وجبرا لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم، وبمن يأتي إليهم، عن إصلاح طعام لأنفسهم". وقال الصنعاني: "فيه دليل على شرعية إيناس أهل الميت بصنع الطعام لهم، لما هم فيه من الشغل بالموت".

فائدة :
دلت السيرة والسنة النبوية على أن صنع الطعام لأهل الميت من جيرانهم وأقاربهم وأصدقائهم، مع ما فيه من جبر ومساعدة لما هم فيه من شغل وحزن، فإن فيه كذلك تحقيق للترابط الاجتماعي والمواساة بين أفراد المجتمع، ومع ذلك ينبغي ألا يخرج هذا الأمر عن الحد المعقول إلى التكلف والمباهاة والمفاخرة، أو أن يصنع أهل الميت بأنفسهم طعاما لمن يأتي إليهم للعزاء، فهذه عادة وبدعة سيئة وخلاف هدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال السيوطي: "هذا الأمر (صنع طعام لأهل الميت) كان في الابتداء على الطريقة المسنونة، ثم صار حدثا في الإسلام، حيث صار مفاخرة ومباهاة، كما هو المعهود في زماننا، لأن الناس يجتمعون عند أهل الميت، فيبعث أقاربهم أطعمة لا تخلو عن التكلف، فيدخل بهذا السبب البدعة الشنيعة فيهم". وقال ابن عثيمين: "وصنع الطعام لأهل الميت إنما هو سنة لمن انشغلوا عن إصلاح الطعام بما أصابهم من مصيبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: فإنه قد جاءهم ما يشغلهم، وهذا يدل على أنه ليس بسنة مطلقا".

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الصاحب لأصحابه، يشاركهم في مشاعرهم، ويشعر بآلامهم وآمالهم، ويقف معهم في أحزانهم وأفراحهم، ويساعد في رفع الحزن والأسى عنهم، ويجعل لهم من ألمهم أملا، وله في ذلك مواقف كثيرة، تدل على منهج تربوي أخلاقي في تعامل المسلم مع أصحابه، ومن ذلك موقفه مع أهل وأولاد جعفر بن أبي طالب بعد استشهاده في مؤتة، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة